ثلاثية الصمود أمام التكنولوجيا
#منوعات
إشراقة النور 4 مايو 2022
من «مدفع الإفطار»، مروراً بـ«الفانوس»، إلى إيقاعات «المسحراتي».. تطل عادات من الماضي، ما قبل عصر الفضائيات والإنترنت، تفتح نوافذها على أجواء شهر رمضان الكريم في الحاضر، صامدة كتفاصيل لا يمحوها الزمن، فلطالما زينت حضورها في وجدان المسلم، وجعلت فجر الإسلام قريباً من الروح؛ ما شكل دفعاً قوياً للثلاثية الرمزية لتصد كل غزوات العولمة، مؤكدة أصالتها، وعمق دلالاتها.
مدفع الإفطار
المدفع آلة حربية من آلات بواكير الحداثة، وقد أصبحت له صلة ورابط بأكثر عبادات المسلمين بروزاً في حيز طاعتهم لرب العالمين جلَّ في علاه.. إنها طقوس الصيام الرمضاني، التي تمجد في مسيرتها - خلال الحقب المختلفة - قيم الإحسان والطاعة، لكن هل كانت الأميرة فاطمة بنت الخديوي إسماعيل تعلم أن «الفرمان»، الذي أصدرته باستخدام المدفع في الإعلان عن ميقات الإفطار في رمضان، ستكون له حظوة في وجدان المسلمين على مر الأزمان؟.. الواقع يشير إلى أن المدفع كابد سنن الاستمرار، بعزيمة هزمت ما وصل إليه العلم الحديث في آلات التنبيه والاستشعار، مثل: الساعات، والمنبهات، والأجهزة الحديثة. ومنذ هذه القصة، التي رويت ضمن أخرى عن أصل المدفع وإلى اليوم، صارع هذا الطقس منتجات الحداثة التكنولوجية؛ فصار هَزِيمُهُ لغةً في كل موعد إفطار، حيث تلتمع إضاءات الذاكرة بثريات الصالحات؛ فأكسبته حماسة الصائمين إصراراً على إكمال سيرته الذهبية. وعلى ذلك، رسخ وجوده إزاء كل ما وصلت إليه أجهزة التقنية الحديثة. ولايزال الكثير من مدافع رمضان منتشراً في مدن كثيرة من الوطن العربي، أشهرها مدفع «مسجد الشيخ زايد» في الإمارات، حيث يجتمع - في حرص - كثير من الصائمين والسياح؛ لمشاهدة إطلاقه عند غروب شمس أيام رمضان.
الفانوس
كان، ولايزال، الفانوس رمز الحكمة، وألق الرؤية، وبهجة روح رمضان، وقد انبثقت فكرته من مصر، حينما خرج أهل مصر حاملين المشاعل والفوانيس المضيئة والشموع، لاستقبال خليفة المؤمنين، المعز لدين الله الفاطمي، الذي قدم إلى مصر في شهر رمضان، ومنذ ذلك الحين صار الفانوس أحد رموز الشهر الفضيل، وسارت به الركبان إلى مختلف البلدان الإسلامية والعربية؛ فتقلب بين الأزمان في مسيرة متطورة، حتى حط رحاله في عصرنا هذا. ولقوة رمزيته وجماله الأخاذ، انحنت أمامه التكنولوجيا؛ فلم تستطع إقصاءه، بل صارت تُدخل عليه تحسينات وتجديدات؛ فتوجد، الآن، مئات الأشكال منه، المعدنية والبلاستيكية والخشبية، التي تعمل بالبطاريات والمصابيح، بدلاً من الشموع، وبات مزيناً بزخارف كهربائية تخطف الأبصار، وتلفت إلى بواطن قيم الفضيلة والتقوى.
المسحراتي
أما قصة المسحراتي، فبدأت منذ عصر الرسول، صلى الله عليه وسلم، حيث كان الصحابيان: بلال بن رباح، وعبدالله بن أم مكتوم، أول من اضطلع بمهمة تنبيه الناس إلى وقت السحور والإمساك عن تناول الطعام، ثم بعد ذلك طالعتنا أحداث الزمن؛ لتخبرنا بأن أول من نادى وغنى لتسحير الناس هو عنبسة بن إسحق، والي مصر في عهد المنتصر عام 228هـ. ومن اللافت أن التاريخ يحدثنا عن نساء قمن بوظيفة المسحراتي، وكان ذلك في عهد الدولة الطولونية، حيث كانت بعض النساء يجلسن خلف المشربيات، ويغنين بصوت جميل؛ ليستيقظ النائمون لتناول السحور.
كان ذلك شيئاً من سيرة المسحراتي في الماضي. أما في الحاضر، فمازالت مهنة التسحير تجد رواجاً؛ لارتباطها بشهر رمضان، وما يشتمل عليه من فضائل وقيم، جعلت للمسحراتي مرتبة لا ينزل دونها، مرتبطة بروحانيات العبادة، إذ لا يكتمل شهر رمضان إلا بنداء وغناء المسحراتي، ذلك أنه مهما بلغت التكنولوجيا من تقدم، وانتشرت تطبيقات الهواتف المحمولة؛ لتذكر أصحابها بأوقات السحور والإمساك؛ لن تحل محل المسحراتي أبداً.
المسحراتي إبراهيم أحمد:
إيقاعات جذابة لإيقاظ الناس
أهازيج السحور عادة رمضانية محبوبة في أنحاء العالم الإسلامي، لم يمحها الزمن. واتخذ المسحراتي أشكالاً مختلفة على مرِّ السنين. ففي الماضي، عين الحكام أفراداً لإيقاظ الناس للسحور، أو الوجبة الخفيفة التي يتناولها المسلمون قبل أن يبدأوا الصيام من الفجر حتى الغسق. وقد كان «المسحراتية» يطرقون الأبواب بالعصي، التي كانوا يحملونها أثناء تجولهم في المدن والقرى. أما اليوم، فقد صمدت هذه العادة، وهي تحمل معها ألق الماضي، وروحانياته.
حيث يؤكد إبراهيم أحمد (مسحراتي من السودان، يمارس هذا العمل منذ 15 عاماً): أنه، رغم ظهور الوسائل الحديثة، التي تنبه الناس إلى وقت السحور، وكذلك تغير عادات الناس في النوم؛ إذ يظلون ساهرين حتى الفجر بسبب البرامج التلفزيونية، والترفيهية، وغيرها؛ فإن ظاهرة «المسحراتي» لاتزال حاضرة في جميع أنحاء الوطن العربي، ولم تستطع التكنولوجيا، والتطور المستمر، محوها، فكل ما أضيف إليها هو فقط مزيد من الإيقاعات الجذابة؛ لإيقاظ الناس.
وفي ما يخص حماسة الناس لهذه المهمة، يقول أحمد: «لايزال هذا الطقس مرغوباً جداً في الأحياء الشعبية أيام رمضان، وهو من البرامج الرئيسية، التي تميز الشهر، وتعطيه طابعاً مميزاً؛ حيث يجوب المسحراتي الأحياء بصوت جهوري». ويستطرد: «حينما أتجول في الحي؛ يجذب هذا الطقس الكثير من الشباب والأطفال؛ فتنضم إليَّ كلَّ ليلة مجموعة من السكان أنفسهم، وتكبر المسيرة يوماً بعد آخر، طيلة أيام الشهر، ومع قرع الطبول ننادي الصائمين باسم ربِّ الأسرة: (يافلان قوم اتسحر)، و(قوم يانايم وحد الدايم)، و(قوم يا نايم قوم، قومك أحسن من نومك)».
ويبين أحمد أنه يجد كثيراً من الاحترام من أهل بلدته؛ بسبب هذه المهنة، حتى إن لقب أسرته التصق باسم «المسحراتي»، ورغم أنه لا يتقاضى عليها أجراً؛ فإن بعض الناس يكرمونه بالهدايا؛ تبجيلاً للمهنة، وللشهر الفضيل!
طبلـــــــــــــــة وصافرة وعصا
تختلف طريقة آداء مهمة «المسحراتي»، بين مدينة عربية وأخرى، فمثلاً في عمان، يقرعون الطبول لإيقاظ الناس. وفي الكويت يسير المسحراتي في الشوارع برفقة أطفال يتلون الأدعية. وفي اليمن، يطرق الناس الأبواب بالعصا، ويطلبون منهم أن يستيقظوا. وكذلك، هناك عادات مختلفة للمسحراتي في لبنان وسوريا وفلسطين، حيث يستخدم بعض المسحراتية صافرة؛ لتذكير الصائمين بوقت السحور. أما في مصر وبعد منتصف الليل، فاعتاد الناس في رمضان سماع صوت المسحراتي، ودقات طبولته، وكلمات: (اصحى يا نايم وحّد الدايم، اصحى يا نايم وحّد الرزاق.. رمضان كريم)، التي خلدها الموسيقار الراحل سيد مكاوي غناءً.


