فرحة رؤية هلال شهر رمضان، «اللمات» العائلية، الوجبات بنكتها التقليدية الأصيلة، قليل من كثير يفتقده العديد من كبار السن في رمضان اليوم، فهل أطفأت التغييرات العصرية بكل صخبها وبرامجها جذوة التفاصيل الحميمية لرمضان الأمس لديهم؟
بسبب التطور الحضاري والتقني، تبدل المشهد الرمضاني لدى كثير من كبار السن، فبعد ما كان يتميّز به سابقاً من عادات وتقاليد دينية واجتماعية وثقافية، تكاد تكون موحدة بين مختلف الأسر العربية و«زمن سحري» ممتد، باتوا اليوم يشعرون بالغربة نحو هذا الجديد، إذ غاب كثير من المظاهر الرمضانية القديمة، إلا أن ذاكرة الآباء والأمهات لا تغيب عنها أبداً، تبقى محفورة في عقولهم، إذ يبوحون بها على موائد الإفطار وفي كل مناسبة ومكان. «زهرة الخليج» سمعت بوح مجموعة من الجيل الماضي عن أهم ما يفتقدونه في الشهر الكريم.
يعود عبد الله المساوي (89 عاماً، موظف متقاعد) لـ70 عاماً، حيث أيام رمضان في شبابه وأهم المظاهر التي كانت موجودة ويفتقدها الآن، فيطل ليتذكر أبرزها «الفرحة العميقة والترقب المبهج الذي كان يستقبل به الناس ظهور الهلال من صغيرهم إلى كبيرهم في أجواء تعكس الجوهر الحقيقي لهذا الشهر المبارك». يتابع: «الكل كانوا يسهرون ويحملون الفوانيس في الفريج أو في سطوح المنزل». ثم يضيف بحسرة: «افتقدنا حالياً هذه الفرحة، حيث أصبح قدوم الشهر يذاع على التلفزيون فقط أو عبر الوسائل الإعلامية التي لا نتعامل معها ولا ندري عنها شيئاً». ويؤكد المساوي بقوله: «تغيرت الحياة كلها وكم أفتقد برامج بعد التراويح في رمضان زمان، حيث كان يجتمع الأهل والجيران والأطفال يتسامرون ويتبادلون الأهازيج والألعاب الشعبية والكيرم والدومينو».

إفطار جماعي
أما علي الشردني (67 عاماً، أعمال حرة) فيستعيد أيام رمضان الدافئة، كما يقول: «عندما كان كل شيء جميلاً وكان الجميع سعداء»، ويتمنى لو تعود تلك الأيام ولو لحظة، إذ يفتقد جلساته مع أصدقائه، بعد صلاة المغرب، حيث يتناولون إفطاراً جماعياً مع أهل «الفريج»، بحيث يجلب كل منهم طعامه، ويأكل الجميع من مائدة واحدة، معلقاً بقوله: «اليوم بات معظم الناس يفطرون داخل بيوتهم».
ولفت الشردني إلى أن الرجال بعد الإفطار، كانوا يتسامرون ويتحدثون في شؤون كثيرة ومهمة ثم يأخذون قسطاً من النوم ليصحوا مع السحور، مقارناً: «أما الآن فاختفى كل هذا وبات السهر حتى الصباح في الأسواق والخيام الرمضانية».

تراحم الجيران
من اللواتي لا ينسين رمضان في الماضي أسماء عبد الرحيم (ربة منزل 66 عاماً) تقول: «أجمل ما في رمضان الذي عاصرناه هو عادة تبادل الأطباق بين الجيران، على الرغم من بساطة الأطعمة ومحدوديتها إلا أن هذه الأيام لم يعد أحد يعرف وجه جاره إلا من رحم ربي»، ويرجع هذا الأمر حسب ما تقول أسماء، إلى انشغال الناس عن بعضهم وعيشهم في عوالم افتراضية وليست واقعية. أما أجمل ما كان يميز شهر رمضان، كما تقول أسماء هو «المسحراتي»، إذ كان يضيف للشهر رونقه. أما حالياً فهو «ظاهرة منقرضة»، وقامت بمهمته آلات عصرية باردة لا حياة فيها مثل الساعات والمنبهات وبقي ظهوره مجرد عادة تراثية ليس إلا».

لمة العائلة
لا يبرح الخيال يسافر بنادية عبد القادر (65 عاماً، موظفة متقاعدة) في كل عام إلى أيام رمضان في السابق، إذ تشعر بأن هذا الزمن قد انقضى لكنها تنتمي إليه بكل جوارحها، تقول: «من أكثر الأشياء التي أحنُّ إليها من رمضان زمان لمة وجَمعة الأهل اليومية، فقد كان ذلك واجباً عائلياً مقدساً، وجلسة الإفطار على الأرض والمفرش الطويل مع تشكيلة الأطباق المختلفة وخاصة شوربة العدس المميزة التي تعدها الوالدة والعصائر والوجبات التقليدية اللذيذة». وتؤكد نادية: «حتى حلويات رمضان، مثل الكنافة والقطائف ولقمة القاضي، التي كانت تزدان بها المائدة، كانت الأمهات يصنعنها داخل المنازل، ويتجمع أفراد الأسرة الواحدة حولها، باتت ماسخة وبلا طعم، لأن كثيراً من الأسر أصبحت تجلبها جاهزة».

أطباق غريبة
غير شعوره بالوحدة في الشهر الكريم بسبب انشغال أبنائه ببرامج رمضان ومسلسلاته، واختفاء البرامج الاجتماعية التي كان منخرطاً فيها في رمضان في الزمن الماضي، يشير أبو سعيد (75 عاماً) إلى عدم قدرته على تناول الأطباق الغريبة على مائدته الرمضانية، مثل: السمبوسة والمعجنات وغيرهما، إذ لا يزال متمسكاً بأطباقه التقليدية، ويؤكد «في السابق كنا نعاني شظف العيش وقلة الطعام، لكننا كنا أصحاء، فلا أمراض سكر ولا قلب ولا كوليسترول».

عبد الله الهامور: مظاهر رمضان اليوم لا تعبر عن جيل الأمس
يرى عبد الله الهامور، باحث التراث الإماراتي، أن الحياة العصرية فيها الكثير من المغريات التي تتيح الاستمتاع بمباهجها، لكنها في الواقع لا تعبر عن جيل الأمس، إذ إن العوالم الرقمية والطفرة العمرانية أفقدت كثيراً من رونق شهر رمضان لدى كثير من كبار السن، فشعروا بالوحدة، ويشرح بالقول: «من أهم الأمور التي يفتقدها الناس، تلك الحياة الاجتماعية الثرية والروابط، لا سيما الأهل والأقارب والجيران، إذ كانت تلك الأجواء عابقة بالحبّ والصدق والبساطة، وبالأخصّ لمّة العائلة التي كانت تشكّل رمزاً أساسياً من رموز هذا الشهر الفضيل». مؤكداً أن «هذا الجيل لا يستطيع أبداً أن ينسى مظاهر الحياة الرمضانية السابقة التي عاشوها، على الرغم من صعوبة الحياة آنذاك وافتقادهم كل هذا التطور الحادث اليوم، وذلك بسبب جمال القيم التي يحملونها لهذا الشهر الفضيل، والتي جعلت المجتمع آنذاك قلباً وجسداً واحداً، فالجار يسأل عن جاره، والغني يعطي الفقير، كما أن روح التعاون والألفة كانت تسود جميع العلاقات».
يضيف الهامور: «على صعيد آخر، فإن الانفتاح على العالم والثقافات الأخرى، بسبب تقنيات التواصل، ألقى بظلاله على الكثير من عاداتنا وممارساتنا التقليدية، خاصة فيما يتعلق بالطعام وطريقة إعداده، حيث إن المائدة هي أحد أهم اهتمامات الأسر في رمضان، فدخل الكثير من الإضافات على الأطباق المعتادة؛ مما غير مذاقها ونكهتها، كما اختفى الكثير من المأكولات الشعبية، بحيث باتت لا تتناسب مع ما تعود عليه كبار السن، فلم يتقبلها الكثيرون، الأمر الذي أشعرهم بعدم الانتماء إليها».