هناك دروب تتسع كحضن عظيم في الكون، كما لو أننا قطعناها في حيوات قديمة، لربما كانت موطن ولادة الطين الذي تكونّا من عجينه، موطن اختمارنا وتبخّرنا في تجربة سبقت اندماجنا في طور الصلصال بمراحل، لربما كشفت نموّنا الزاهر، أعتقتنا أحراراً على ربوة خضراء، أو طيراً بين الأفياء، أو سراباً في دهشة المعادن والحجر والماء، أتكلّم عن دربٍ قطعناه لملايين السنين خلف السّتار والحُجُب، دروب تشبهنا إلى حد بعيد، على نحو مريب ومُلغز وحميم، قد ضعنا عنها في زمن ما، وعادت تتدفق نحونا وكأنها على طول صبر وانتظار وترقب لرحلتنا الموازية لدورة الأفلاك. دروبٌ لا نريد لها النهاية، تظل النظرة عالقة في الهذيان، أشبه برقصة درويش، مع كل التفاتة واستدارة ينفتح حجابٌ في الرّيح، وينجرف جبل عظيم كان جاثماً على الرّوح. دروب تعبرنا وكأنها المجرى الذي طال يباسه في الأرض، ونحن الماء الأول الذي يطيب له فرح العود للمجرى، وكأنها الأم التي تسرُّ بعودة الأبناء بعد غياب عظيم، تتقاطع مع تناغمات الروح، وينعتق عجيب الشوق والحنين والعبث الحكيم في الغيب، ترسل علامات التيسير الأولى إلى مسار الرحلة، تكشف لنا جمالياتها المواربة وتنعتق من بين جوانبها أسرار الوحدة العشبيّة في منافي الرّهبان والنّساك. درب واحد هناك أتذكّره عميقاً، فاجأني من أول مداخله بمعرفة خرائطه جيداً، هو درب الهضاب في آسيا الوسطى، طريق قديم لقوافل الغجر، يتفرّع منه درب يفضي إلى تخوم سمرقند التي توقفنا عند أبوابها القرمزية في السماء الغائم بمحيط الحدود الرمزية والواقعية، فوجئتُ بأني أتقن عبور المساحات بيقين وثقة واستشراف أكيد، أعرف بما سيصادفني بين الممرات، وأحياناً كثيرة ألتقي أشخاصاً مألوفي الملامح والأصوات، لكن.. تضيع مني الأسماء، وحدها الأسماء تضيع، أسماء الأمكنة والشوارع والناس، وعدا كل ذلك فهو قديم يتجدد، وكأنه أطلّ من الغيب فجأة، كنداء جرم بعيد، حين كان ذهني صافياً في درب الطفولة، وكان بالي عاطلاً عن الهم.