مما وعاه الناس من كلام السابقين ألا تؤجل عمل اليوم إلى الغد ..ومما وعاه قلبي من حكايات النادمين ألا تؤجل حب اليوم إلى الغد!
جيلنا المنكوب - وربما المحظوظ - سيجلس في غد قريب أمام المدفأة -التي قد تكون إلكترونية - يجمع أحفاده حوله ويحكي لهم كيف اجتاز هذه الفترة العصيبة التي اجتاح فيها فيروس كورونا العالم.
بعضنا سيروي بطولاته عن أنه قد كان - بحكم طبيعة عمله - من المناضلين الذين حملوا أرواحهم على أكفهم تحت المعاطف البيضاء ..وبعضنا سيحكي -على استحياء- كيف ساعد ذوي الحاجة بماله وطعامه، بعضنا سيغض الطرف عن خوفه ويروي بيقين كيف صدق ظنه في رحمة الله التي تغمدتنا، وبعضنا سيبالغ في سرد وقائع أسطورية عن أشباح الموت التي حامت حول الرؤوس!.
قد تسعفنا مواقع التواصل وقتها بهذه الذكريات، وقد نجد إشعاراً عن نكتة لطيفة تشاركناها قبل خمسة عشر عاماً -أو يزيد- عن ملل الجلوس في البيوت، وعن اكتساب الوزن الزائد، وعن السخرية التي تمتزج بالمرارة فنجيد بها وأد مخاوفنا!.
أتمنى لو طال بي العمر حتى وقتها، أن أخبر أحفادي بفخر أنني عندما ظننت النهاية مقبلة لم أؤجل حب اليوم إلى الغد، إنني أوقفت عقارب ساعتي عمداً، أخذت نفساً عميقاً ورسمت على شفتي ابتسامة أعمق وأنا أرمي خلفي فوضى ظنوني وهواجس خوفي فقط لأستمتع بكل ما هو الآن لي! اعتبرتها هدنة للحب، لسكب مشاعري التي طالما علقتها على «شماعة الظروف» وآن الأوان أن يدفئني معطفها للتلذذ بمذاق الدفء مع أناس ازدحم بهم القلب خلف ستار الواجب وآن الأوان أن أزيحه للترحيب بهم من دون خجل، أناس اختلفت مسمياتهم بين زوج وابن وأم وأب وصديق وجار و...!، لكنهم اشتركوا جميعاً في احتلال روحي هذا الاحتلال العنيف، الاحتلال اللذيذ الذي لم أستشعره بهذا العنفوان إلا عندما تشوشت الصورة بخوف الفقد!.
يوماً ما سأحكي لأحفادي أنها -رغم الخوف- كانت أصدق فترة في حياتي، إنني اغتنمتها في القرب ممن يستحق القرب ..إنني لم أحتسبها حبساً ولا عزلاً بل هدنة من معركة المشاغل والظروف ..وأن كاميرا هاتفي اتسعت للمزيد من صور الأحباء ..أن عالم أولادي اتسع لمزيد من الحكايات، أن مطبخ بيتي اتسع لمزيد من الطهي بنكهة الحب ..وأن سجادة صلاتي اتسعت لمزيد من تضرع الابتهال. فكيف أجحد كل هذه السعة بوصف الضيق؟!.
سأحكي لهم أنني جعلت من الخوف وقوداً للأمان، أنني أدركت ما يحكونه عن «إيلاف النعم»، زهدها بعد اعتيادها، وقد آن الأوان لتوضع كل منها في خانتها الثمينة التي تساويها، سأحكي لهم أنني لم أكن أخاف الموت، لكنني كنت أخاف أن أكون من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، سأحكي لهم أنني فطنت لكنزي الحقيقي وأزحت عنه أكوام التراب لأعيد له بريقه ورونقه، وأنني حين خفت النهاية ثبتت قدمي حيث ينبغي أن تكون البداية، فلم يسلبني الخوف لذة الرضا، ولم أؤجل حب اليوم إلى الغد!.