أماني حسين

فتاة جميلة بملامح عربية أصيلة، رقيقة القد، قوية النظرات، تهوى الرسم وركوب الخيل وتهوى تصميم الأزياء لها ولصديقاتها.. فتاة بمواصفات راقية، لكن بذرة التحدي نمت وترعرعت بداخلها، وعلى الرغم من رقة جميلة بوحيرد، وما تتمتع به من ذوق رفيع، إلا أنها وقفت يوماً ما ثائرة تقول بصوت قوي واثق: «الجزائر أمنا». بنظرات قوية متحدية، تنشد نشيد بلادها الوطني أمام المستعمر الفرنسي، الذي كان يفرض غناء النشيد الوطني الفرنسي على طلاب المدارس الابتدائية. لكنها كانت الصوت الوحيد الذي صدح وسط طابور الصباح وارتفع عالياً بحماسة، وهي تتذكر كلمات والدتها أنتِ جزائرية ولست فرنسية.

وحيدة بلا شقيقات
جميلة بوحيرد فتاة وحيدة مع سبع أشقاء ذكور، فكانت أكثر أشقائها شجاعة، تربت على كراهية الاحتلال. والدتها تونسية الجنسية، ولكنها كانت عاشقة للجزائر فربت أولادها على حب البلد. ولم يرهبها العقاب الذي فرضه عليها المستعمر فزادها عناداً، حتى تكرر العقاب وتكرر العناد وزادت الكراهية بداخلها يوماً بعد يوم.
حينما بدأت الثورة الجزائرية في وجه المحتل الفرنسي، انضمت جميلة إلى الثوار من دون تردد ولم تتجاوز حينها الخامسة عشرة من عمرها. عمل الفتيات في الجبهة، من توزيع المنشورات وإخفاء السلاح، لم يقنعها فاختارت العمل الأصعب.

حلقة الوصل
الانضمام إلى صفوف الفدائيين هو حلمها، فهو ما غذته والدتها طيلة سنوات طفولتها في وجدانها، سلكت جميلة طريق الجبال الوعرة، وكانت حلقة الوصل بين المجاهدين المعروفين للفرنسيين والمطاردين منهم المختبئين بالجبال. حازت جميلة ثقة الثوار، فبدأت بزرع القنابل في طريق المستعمر الفرنسي بالحانات وبأماكن تجمعهم. فمن يظن أن تلك الرقيقة تحمل في حقيبتها قنابل تحصد الأرواح، بطولاتها لم تكن لتختبئ طويلاً فهي بالكاد تهدأ، فلا تخلو عملية فدائية من مشاركتها، ولا تخلو مظاهرة من دون وجودها ولو خلف الستار، فاسمها هناك يتردد همساً ولكن الآذان الخائنة سمعته بوضوح، فأصبحت على رأس قائمة المُطاردين من المستعمر الفرنسي.

رصاصة خائنة
تمر الفتاة الرقيقة بين الفرنسيين بخيلاء، إذ يسمح لها مظهرها الأرستقراطي بالتنقل بين المناطق العربية والأوروبية ببلدها، من دون أن ينتبه أحد لتنفيذ إحدى مهامها الفدائية، ولكن لسوء حظها لمحها أحد الجنود وهي تترك حقيبتها، فأطلق عليها رصاصته وهي تحاول الهروب فأصابها في كتفها.
نقلها للمستشفى كان نوعاً من العذاب، فلم يرحمها المحتل، إذ رأت العذاب ألواناً، إذ عُلق صاعق كهربائي بفراشها لمدة ثلاثة أيام متواصلة، في محاولة لجعلها تفصح عن أسماء رفاقها من الثوار، وأماكن تواجدهم، ولكن صرخاتها كانت: «الجزائر أمي أفديها بدمي»، ليزيد غضب السجان ويشتد التعذيب.

بطش المستعمر
نقلت للسجن بعيداً عن المنظمات الدولية، وهي ما زالت متأثرة بجراحها، ليستمر التعذيب والإذلال. حتى إن محاكمتها كانت فصلاً هزلياً جديداً في بطش المستعمر، وتم الحكم بإعدامها. هي الثابتة على مبادئها القوية التي لم تتخلَّ عن قضيتها، حتى إن قرار ترحيلها لفرنسا لتنفيذ حكم الإعدام زادها ثباتاً. فردت قائلة: «أعرف أنكم سوف تحكمون عليّ بالإعدام، لكن لا تنسوا أنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلدكم، ولكنكم لن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرّة مستقلة».

المجتمع الدولي
وصلت صرخة جميلة للمجتمع الدولي. فترحيلها لفرنسا كان من أغبي القرارات، فهناك وصل صوتها إلى من آمن بقضيتها، التي تبنتها دول عديدة، في مقدمتهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر (الذي استقبلها فيما بعد بقصر الرئاسة في القاهرة) ذهب تحديداً لمقابلة الرئيس الفرنسي آنذاك شارل ديجول، فتم تخفيف الحكم من الإعدام للمؤبد. لكن جميلة لم تستسلم ولم ترضَ بالأمر الواقع ومع استمرار الضغوط الدولية، وتبني القضية من أحد المحامين الفرنسيين، تم الإفراج عنها. يومها خرجت حرة كبلدها الذي تحرر بفضل أبنائه ومنهم جميلة.
تولت جميلة بوحيرد، بعد الاستقلال، رئاسة اتحاد المرأة الجزائري، لكنها قررت الاستقالة بعد عامين، وعاشت بعد ذلك معتزلة السياسة ومتوارية عن الساحة الإعلامية.