كلما التقيته تأخذني الذاكرة بعيداً إلى الزمن الذي وصل فيه إلى البحرين قادماً من بلاده، يقف في دكان صغير أمام أرفف زجاجية تعج بالأقلام والدفاتر والأدوات المدرسية. 

يناولنا ما تشير إليه أصابعنا الصغيرة، وعلى وجهه ترتسم ابتسامة الرضا. 

لا أعتقد أن (أشرف) - وهذا هو اسمه - قد علم ما ستؤول إليه حياته حين تقدم بجواز سفره وماله القليل إلى مكتب الأيدي العاملة في بلده، كان شاباً في منتصف العشرينات من عمره، يحلم كالبقية في الحصول على عمل في إحدى دول الخليج، استقدمه أحد أبناء منطقتنا السكنية ليعمل بائعاً في مشروعه التجاري الذي اختار له أن يكون قرطاسية بسيطة لبيع الأدوات المدرسية. 

ولكن القرطاسية تعثر العمل فيها ولم تجلب لصاحبها الأرباح التي كان يتطلع إليها، فما كان منه إلا أن قرر إغلاقها.

كان على أشرف المسكين العودة إلى (كيرلا) وهو خاوي اليدين.

ومثلما شعرنا بالأسى لقرار رحيله بعد أشهر قليلة لم يحقق فيها الكثير، شعر (سليم) بذات الأسى على ابن جلدته (أشرف)، فما كان منه إلا أن أبقاه ليعمل معه في محل الخياطة الملاصق لدكان القرطاسية.

كانت المشكلة أن أشرف لم يكن يعرف من مهارات الخياطة إلا أن يضع الخيط في الإبرة، ولكن إصراره على عدم العودة لبلده منكسراً جعله يصر على البقاء في الدكان مكتفياً بخياطة الأزرار، ومراقبة سليم وهو يخيط الثياب بمهارة.

الأعوام التي تلت ذلك اكتسب فيها أشرف الكثير من المهارات، قام بخياطة الكثير من ملابسي، وبعض ملابس عرسي، وحتى أقمطة أطفالي وملابسهم. 

اليوم  وبعد 30 عاماً، أدخل محل الخياطة  فأجد أشرف منكباً على ماكينة الخياطة يطرز فستاناً جميلاً لطفلة. يسألني عن أمي وعن أبنائي، أناوله القماش وأبدأ في شرح ما أريد تفصيله، وفي داخلي يمر هاجس يهمس لي (إننا نولد من دون أن نعرف ما تخبئه لنا الأقدار).

صحيح أننا نخطط لحياتنا، ونظل نسعى لتحقيق ما رسمناه، قد نتعثر، أو نفشل، ولكن القدر يتدخل في النهاية  ليأخذ بأيدينا إلى ضفة الأمان التي لم نكن لنضعها في الحسبان.