رغم أني غادرت بيت والدي - رحمه الله - منذ أكثر من عشرين عاماً، منتقلةً إلى بيت زوجي، إلا أني حين أنام لا تراودني أحداث الأحلام إلا في ذلك البيت الذي عشت فيه ردحاً من الزمن.

أثناء الحلم أجد نفسي أتنقل من مشهد إلى آخر في ذات الغرف والممرات، تحيط بي قطع الأثاث ذاتها، وفي كل مرة أقف حائرة، أسائل نفسي لمَ يحدث ذلك؟

أظل أفكر وأفكر وفي النهاية لا أصل إلى تفسير يقنعني.

غريب أمر الأماكن نعتقد أننا نسكنها، لكن في الواقع هي التي تسكننا.

تظل تفاصيلها تتوغل في عقولنا، نغادرها ونظن أننا تركناها وقد طوينا صفحتها وفتحنا صفحة جديدة في فصول حياتنا في مكان آخر، ولكن تفاصيلها تباغتنا من دون أن ننتبه وتظهر من جديد في أوقات لا نتوقعها.

قد تعيدنا لها رائحة ألفناها لشجرة ياسمين ضوعت بشذاها في ليلة صيفية حارة، أو لحن أغنية قديمة ما مللنا من تكرارها، أو طعم حلوى تلذذنا بذوبانها في حلوقنا، أو حتى شكل نافذة تلصصنا من خلالها إلى العالم الخارجي ونحن صغار.

ما الذي تتركه الأماكن فينا فلا تغادرنا حتى وإن نحن غادرناها؛ تفاصيل وذكريات مرت بنا، أم إحساساً بالدفء يغذي مشاعرنا طوال العمر؟

يترجم الشاعر محمود درويش كل ذلك حين يقول: ليس المكان مساحة فحسب، إنه حالة نفسية أيضاً، ولا الشجر شجر، إنه أضلاع الطفولة.

في الواقع إن الأماكن تترك في أنفسنا أثراً واضحاً لا يوقفه لا البعد الزماني ولا المكاني عن أن يقتحمنا في لحظة ما، فيعيدنا إلى حيث كنا، وكأننا لم نرحل ولم نغادر يوماً.

يجد المغتربون أنفسهم في حيرة إزاء الحنين الذي يظل يشدهم نحو الأماكن التي ألفوها، فيمنعهم من مد أواصر علاقة جديدة مع أمكنة أخرى.

ولكن المفارقة تكمن في أن الكثيرين ممن يعودون يصدمهم واقع مغاير عما كانوا يشتاقون إليه، يظنون أنهم بعودتهم سيسترجعون اللحظة التي عاشوها في ذلك المكان، ولكن الحقيقة التي يجهلونها أو ينكرونها، هي أن تلك اللحظة قد حُبست في زمن يصعب استرجاعه.