قابلتها على أحد الأرصفة، عجوزاً تجلس على الأريكة مستندة إلى عصاها.. معطفها الثمين وحذاؤها الفخم مع رائحة عطرها الراقي، كلها تشي بثراء فاحش يناقض جلستها هذه !.
لم أملك فضولي وجلست جوارها فلم تمانع، عيناها الغائرتان تتفحصان ملامحي ليفتر ثغرها عن ابتسامة واهنة وهي تقول لي:
ـ إياكِ أن تضيعي فرشاتك !.
نظرتي المتسائلة فتحت لها باباً من البوح ظننتها كانت تنتظر فقط من يطرقه، أخبرتني عن اسمها الذي يشبهها «سراب»، لكنها لم تخبرني عن عمرها.. أخاديد وجهها كانت تزداد عمقاً وهي تروي لي قصتها، وكيف تركها أبواها طفلة يتيمة شقت طريقها في الحياة بصعوبة.. تدمع عيناها وهي تحكي أنها في صغرها كانت تتمنى لو تملك الفرصة لتمشط شعرها الجميل، كما تتمنى بتصفيفة ما رأتها في إحدى المجلات أو تمنحها لابنتها في المستقبل، لكنها لم تكن تملك الوقت ولا الثمن، فاكتفت بتمشيطه كل يوم بفرشاتها التي صاحبتها طوال سنوات عمرها وقد عاهدت نفسها أن تبقى تذكّرها بضرورة الكفاح كي تحقق ما تريد، السنوات تجر بعضها جراً فتمنحها بكدّها كل ما تمنته: المال والزوج والأولاد، لكنها لم تشعر يوماً بالشبع.. كانت تشعر وكأنها تعدو في سباق لا يعرف خط نهاية، أهملت الزوج حتى هجر.. تغافلت عن الأولاد حتى استغنوا.. الأصفار في رصيدها البنكي تتكاثر، لكنها لم تجنِ في خانة المشاعر سوى صفر واحد على اليسار لا يساوي شيئاً.
ـ لا أدري متى ولا كيف فقدت فرشاتي، وفقدت معها الهدف الذي ظننتني أسعى إليه.. عرفت البداية، لكنني ضللت الغاية وتشعبت بي الطرق.. امتلكت ثمن تصفيفة الشعر، بل وراتباً خاصاً لمن يعدها لي ولابنتي، لكنني فقدت شغف الرغبة، ضاع مني وسط لهاث السعي خلف المزيد والمزيد من....؟!، لم أعد حتى أعلم من ماذا، كأنما استعذبت قدماي العدو من دون اكتراث بالنهاية.
تقولها وهي تستخرج من جيبها ميدالية مفاتيح لوحت بها في وجهي وهي تعددها واحداً واحداً: مفتاح فيلتها الفاخرة، مفتاح سيارتها الفارهة، مفتاح شركتها، مفتاح خزانتها في البنك، ثم ترتجف أناملها وهي تشير إلى الأخير.. مفتاح مقبرتها التي بنتها بنفسها منذ وقت قصير ولم تدرِ أنها ستدفن فيها أول أبنائها.. مات ولم يشبع من أمومتها كما لم ترتوِ هي ببرّه. ملأت الدموع عيني وأنا أراها تقطع حديثها فجأة كما بدأته فجأة، لتنهض واقفة بصعوبة فيخيل إليّ أنها تشبهني.. أراها تغادر بخطوات بطيئة مستندة إلى عصاها، فتتعلق عيناي بمفاتيحها.. أتذكر حياتي، عملي، أولادي، فيهيأ إليّ أنما أملك - مثلها - فرشاة!.. فرشاة تذكرني بهدفي كي لا أفقده في السعي مهما طال الطريق.