كعادة الأحداث المدبرة في الفضاء الإلهي، أمر الله بالحركة الملائكية نحو مركز اليابسة في العالم (استجابة لنداء الأم هناك، في وادٍ غير ذي زرع)، وفيض حزنها المؤلم والخارق الذي أشفقت عليه الجبال والشعاب والأزمنة.
وما كان الماء الدّهري لينفجر من أثر جبريل لولا إذعان تلك الأم لأمر الرحيل وتهجر بنفسها أرض الحياة المقدسة فلسطين، وتحِل على مكة من سلالة الرّحيل إلى سلالة البئر.
إنه الحلول القدسي، في بقعة أرضية معينة، ذلك الذي يتيح لنا إعادة سرد تاريخ الأرض وزحزحتها من الوسط الفيزيقي إلى فضاء سامٍ متعال ذي أبعاد سيميائية ساحرة.
وباستعارة النظرة السابقة وتخصيصها على الحياة المقدسة في شعاب مكة، حيث الأيقونة المكانية لم تكن لتوجد في العالم، لولا شجرة الماء والخلاص التي تجمعت عروقاً بين يدي الأم وعمّرت فضاء مكة بطقس الجسّ والحدس والعبادات والأساطير والسرديات الروحية، ثم بالازدهار الاقتصادي وتتابع الزعامات السياسية.
وبين طقس الجسّ والحدس انتعش طقس الجمال والشوق، ذلك الجمال الملخّص في  تكريس النعمة  لدفع النقمة، «ألم يقل الرواة  إن الصحراء ليست الأرض التي منعتها السماء الغيوث، ولكن الصحراء حقاً هي الأرض التي انقطع فيها الجمال؟». (موسم تقاسم الأرض /‏ إبراهيم الكوني ص: 66)
والجمال معناه كامن في (تقاسم الجمال)، كامن في العون بالنعمة، ذلك الكرم الإنساني المقدّم اقتراباً لتسبيح الخالق وشكره، وكانت (هاجر) هي الأيقونة الأحق بأن تؤرّخ كأنثى النعمة المكيّة، ابنة الماء والخصوبة والعمران، الأم التي أخرجت مكة من الظل والصمت إلى النور والكلام، الفاعل الأول في تشكيل أول عوامل استقرار الجماعات البشرية النازحة من اليمن، الأساس الأول للطمأنينة والجوار والأمان، والأجدر بأن تُرفع من الهامش إلى المركز، من مستوى الحادثة العادية والتنميط في الرواية الموروثة إلى المستوى الأمومي المقدس المانح للبشر شكلاً وصدى إنسانياً ونجاةً وعودة لحالات السلام البدئي بعد أزمنة طويلة من الفوضى، تلك الفوضى التي رافقت عصور اكتشاف النار والفأس والسحر وأوائل حوادث القتل البشري، الفوضى التي استوجبت غضب الطبيعة وفوران الطوفان وجففت شبه الجزيرة العربية.
كل شيء تحرّك في ذلك الوادي الموحش والموغل في الفناء، كل الأشياء تطهرت بالصلاة لأجل هاجر، وكانت الصلوات مترعة بالإيمان واليقين من الاستسقاء الجوفي. ولولا عمق الإيمان بالمخرج الربّاني لما خرج حليب الأرض من الحجارة القاعية المتكدسة منذ العصور القديمة، ولظل مطموراً بصخور الطوفان إلى يومنا هذا.