لم تكن المقاهي الشعبية الثقافية متكأ المدن لشرب الشاي القهوة والنارجيلة فقط ،إذ كانت تعطيها سمتها وتلاوين إنسانها المتمدن، في مختلف مناحي انسرابه في عروق الحياة وتفاصيلها، كلوحة فسيفسائية احتضنت أناسا تنوعت أفكارهم من كل جيل وطيف وانتماء، كذلك اجتذبت  تلك المقاهي مشاهير الأدب والفن والسياسة على مر العصور، وتناثرت عراقتها بين المدن كعلامات حضارية تنفخ في تاريخها أنفاس الوعي المضخمة بتعدد الأفكار والثقافات، وفضاء عام تناقش فيها وجوه المعرفة والقضايا العامة التي تهم روادها وتهديهم رؤية جديدة للعالم. في هذا التحقيق جولة قصيرة على بساط المقاهي الأيقونية في العالم العربي نقلّب أوراقها ونسافر عبر أزمنتها.

 

في سوريا بدت المقاهي في نشأتها الأولى موغلة في التاريخ، وبلغ عددها في القرن التاسع عشر 110 مقاهٍ منتشرة في أنحاء المدينة وكان لحضورها وقع ميز مدينة دمشق وشوارعها العنيدة ذلك أن المقاهي فيها ما زالت تناضل عاديات الزمن ومسببات الحزن، ومن أشهرها قهوة «السكرية» بباب الجابية، وقهوة «القماحين» بالقرب منها، وقهاوي «الدرويشية» ويعد مقهى «النوفرة» الأكثر عراقةً وقدماً في المدينة حيث يعود تاريخه لخمسة قرون. وفي عام 1945 أطل مقهى «الهافنا» أو «الرشيد» من بين موجات حركة المجتمع الدمشقي. ولا نترك سيرة المقاهي حتى نأتي على ذكر مقهى «البرازيل» الذي حفر في وجدان رواده حتى تدفق حبرهم لوعة على إقفاله، ومن طريف حكايات رواده الظرفاء أن كان لهم شعار فحواه: (نحن إخوان الصفا وخلان الوفا والحكي بالقفا).

هرم معاصر

نطق الصخر العصي وهو يتراكب على بعضه حاكياً إبداع الفراعنة في مصر، لكن الذي تخفيه الأهرامات أكثر من الذي تبوح به، إذ أوكلت مهمة «الحكي» إلى مقاهيها، التي كانت زاداً للوجدان العربي والمصري على مر السنين والذي تستوحيه من صخب الحارات المصرية، التي أسهمت بقوة في الحركة الثقافية وعندما اشرأب جيد مقاهي «الفيشاوي» في منطقة الحسين مستشرفاً آفاق المستقبل كانت القاهرة موعودة بولادة هرم معاصر عام 1760 على يد الحاج فهمي الفيشاوي، ولم تمضِ عقود قليلة حتى صار مقهاه قبلة المشتاقين لنضارة الاجتماع النابع من بساطة عمق حياة الناس والذي يجعل من شرب القهوة طقساً صوفياً للتحرر والانعتاق، وبنظرة لدفتر حضور هذا الطقس وجدنا جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ويتقدم بنا الزمان لتضيء أحرف واضحة كاتبة اسم الأديب المصري نجيب محفوظ ضمن ألذين أرسوا تقاليد طقس «البن» في تشكله الخلاق  ليتبعه إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي ويوسف إدريس وليس من نافلة القول أن نقول إن هؤلاء قد كتبوا معظم أعمالهم الأدبية في هذا المقهى الهرم. ومن الأسماء العالمية التي زارته الفيلسوف الفرنسي واجد رواد الوجودية جان بول سارتر وصديقته سيمون دي بوفوار، وقد تمادى مقهى «الفيشاوي» في ترنين وتر الحياة الفنية عندما سمح للفنانين التشكيليين بأن يرسموا لوحاتهم ويعرضوها فيه، ومن أبرز المقاهي الشعبية والتاريخية الموجودة في مصر، مقهى «الحرافيش» و«ريش» و«الحرية»، مقهى «متاتيا» و«زهرة البستان»، و«الزهراء»، وهناك أيضاً مقهى المشايخ.

تسامح

فترة الخمسينات والستينات لعبت المقاهي في السودان دوراً كبيراً في الحياة الثقافية والاجتماعية آنذاك، إذ وهبت الفكرة للمكان روحاً وثابة المعاني ليشكل جزءاً من ذاكرة المسيرة الإنسانية، حيث انتقل النشاط الأدبي والفني إليها، وكان أشهرها، وأبرزها أثراً على الحركة الأدبية والفنية في السودان، مقاهي العاصمة الوطنية أم درمان، التي تباركت بقيم التسامح والمحبة فوهبت جغرافية للروح عبر مقهى مثل مقهى «ود الاغا»، مقهى «أحمد خير» مقهى «أولاد الفكي»  ومقهى جورج مشرقي المسيحي القبطي الذي تخلقت نطفة وجوده رافلة بين أثواب وحلل القيم الأخلاقية النبيلة لتنعكس في مقهاهٍ قرب مبنى بوستة أمدرمان لقد ملأت الطيبة فناجين قهوة مشرقي فتدفقت إبداعاً أصيلاً ترجمه التوق مغنى عندما صدح المغني: (قهوة جورج ارحكا نزورا.. فيها المنقة القلبي بدورا.. وفيها الزول السمح الصورة ..وفيها الجلسة المامنظورة.. سرور وكروما وناس قدوره) وما الأسماء التي ذكرت إلا عناوين لسير إبداع فني أسس الوجدان السوداني بقيم التسامح والمحبة تلك كانت بعض من هموم قهوة جورج والتزامها بخط الدعم لكل ثقافة معافاة تحتفي بالاختلاف مستلهمة روح المدينة الصوفية ألتي أظلت كل من أوى إليها بكل حب وترحاب..

شارع الثقافة

في بغداد شكلت المقاهي حوجة حياتية تستقطب روادها من مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، خاصة المثقفين الذين طرزوا سيرتها بإبداعهم الفني والأدبي. وفي شارع صاحب القرطاس والقلم «المتنبي» والذي أطلت عليه مقاهٍ كثيرة، وكانت سطوة مقهى  حتى صنف بحسب اليونيسكو عام 2007 كخامس شارع ثقافة في العالم، ولكن يبقى «شارع الرشيد» هو الأوفر حظاً في المقاهي الأدبية الشهيرة في بغداد، إذ قامت على جانبيه مقاهي: الواق واق، البرازيلية، ياسين، شط العرب، البلدية، البرلمان، المعقدون، الشابندر، الزهاوي، وإليها توافد الشعراء محمد مهدي الجواهري، وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وكثر من وجوه الفكر والأدب والإبداع والثقافة.

أهل الأدب

على جدران مقهى «العهد الجديد»، في تونس كتب الشاعر التونسي محمد العربي الكبادي «في هذا الركن، كان شيخ الأدباء يعقد جلساته الأدبية التي كونت جيلاً من أهل الأدب والفن، كما  تولدت حركة أدبية في تونس استوعبها مقهى «خالي علي» بداية ثلاثينات القرن الماضي. وكان هذا واحداً فقط من عدة مقاهٍ ذاع صيتها وحفرت عميقاً في الوجدان الثقافي والاجتماعي والسياسي للمدينة منها مقهى المرابط الذي  افتتح  أبوابه لأول مرة عام 1630، ولذلك يعد من أقدم المقاهي في تونس. وعلى بعد خطواتٍ قليلة من مسجد الزيتونة التاريخي ومقهى «الأندلس»، وكذلك مقاهي «العياري» و«الهناء» و«زمارة» و«تحت السور» كذلك لا يمكن أن يغفل اسم «القشاشين»، عند ذكر المقاهي التونسية والذي كان قبلة لأعلام الأدب والثقافة، من بينهم محمد الشاذلي والبشير الفورتي والمختار الوزير وعبد الحميد المنيف ومحمد العروسي المطوي،

سطوة أدبية

عرفت بيروت المقاهي تحديداً في أواخر القرن الـ19، فبدأت بالانتشار في ساحات وسط البلد الثلاث ساحة «هال» وساحة «البرج» وساحة «الدباس»، ولاحقاً ساحة «النجمة». وبسط «مقهى فلسطين» سطوته الأدبية إذ  كان يستقبل أشهر الشعراء مثل أحمد الصافي النجفي، محمد كامل شعيب العاملي، محمد علي الحوماني، أما مقهى «الحاج داوود» فكان من أشهر رواده الشاعر أمين نخلة والفنان التشكيلي مصطفى فروخ، وسجلوا حضوراً أيضاً على مقهى البحرين مع سامي الصلح، وعبد الله اليافي، وصليبا الدويهي، رشيد وهبي، إلياس أبو شبكة، ومحيي الدين النصولي وحليم دموس.

مثلت مدينة طنجة في المغرب مركزاً عالمياً وأدبياً مهماً لما تتمتع به من طقس خلاب ومناظر ساحرة، ويعد مقهى «الحافة» الشهير المكشوف والذي تأسس سنة 1921، واحة ظلت على مدى السنوات نخبة من الفنانين والمثقفين  في العالم. وكان المقهى مصدر إلهام لكثير من الروائيين والكتاب أبرزهم «ويليام بوروز» «لوبول بولز» والكاتب المغربي اللامع محمد شكري.

بن برازيلي 

قبل أكثر من قرنين تأسس مقهى «أبوناشئ» في الكويت وتحديداً في عام 1780. ليصبح بذلك أقدم مقهى، في المدينة وقد استضاف عدة مفاوضات قادة وحكام بارزين في المنطقة وكان شاهداً على أحداث مهمة شهدتها البلاد في الخمسينات والستينات. ومن المقاهي الشهيرة والتي وضعت بصماتها على المجتمع الكويتي  مقهيا «نويدر»، و«البرازيلية»، اللذان تأسسا عام 1944 والأخير كان صاحبه أول من أحضر البن البرازيلي في الكويت.

 

رسالـة في الشاي والقهوة

 

«وهو مشروب الكتاب والمدرسين والمطالعين للكتب والمعلمين للعلوم الأدبية والصناعية والشعراء وأهل الأدب»، هذا التعريف أورده الكاتب جمال الدين القاسمي في رسالته الموسومة بـ(رسالة في الشاي والقهوة) في القرن الثالث عشر الهجري وبذلك التعريف تكون القهوة شراب المثقفين والأدباء في المنطقة العربية الذين أثاروا حولها جدلاً أدبياً لم تنقصه قصائد الشعر التي أطنبت في غزل القهوة، وبذلك ارتبطت ارتباطا وثيقاً بالحراك الأدبي منذ بدايته فضلاً عن إسهام هذا المشروب العجيب في موجات الحراك الاجتماعي عندما صار له بيت في الحيز الجغرافي ومساحة في الوجدان العربي عندما صارت هذه البيوت أو المقاهي قبلة للفنانين والمغنين بجانب استضافتها عروض المسرح الشعبي أي ما سمي بالحكواتي أو الأراجوز.