الحبّ عاطفة إنسانية سامية، ترقى أعلى الدرجات والمراتب حين تتوجه للأبناء والبنات؛ لأنهم فلذات الأكباد، جزء من المرء ذاته. هذا الحبّ لا بد أن يكون خالصاً لهم، لأنفسهم وذواتهم كما هم. ليس حبّاً من أجل أن يحقق فيه أحد الوالدين أو كلاهما الحلم المنشود، في دراسة تخصص ما، أو احتراف عمل معين. إنما هو حبّ كامل بما هم عليه من طباع شخصية، اتجاهات وأفكار، مهما بدت مختلفة وغريبة على أهله، من دون أن يعني هذا الاصطدام بالمجتمع أو مخالفة القانون. كل عام نسمع عن كثير من الطلبة يجبرون على تخصصات معينة إرضاء لأسرهم، بسبب وجود التخصص في جامعة بعيدة عن مقر إقامة العائلة، أو ليكمل الطالب في التخصص المناسب لشركة والده!

محبة الأبناء تعني أن نؤمن بهم كما هم، أن نتقبل اختلافهم عنا، أن نترك لهم حرية اختيار المسار العلمي الذي يرغبون فيه، من دون ضغط أو تهديد؛ لأن التخصص الجامعي مرتبط بطبيعة العمل في كثير من الأحيان، فكيف يمكن لشاب أو شابة العمل في مجال لا يحبه؟ بعض الأهالي فرضوا ذلك على أبنائهم فكانت النتيجة ترك الدراسة أو تغيير التخصص بعد فترة. مثل أورهان باموك - الفائز بجائزة نوبل للآداب - الذي دخل كلية الهندسة بضغط من عائلته، التي يعمل معظم أفرادها في مجال الهندسة، ثم تركها بعد ثلاث سنوات؛ ليتجه إلى تخصص الصحافة.

إن الأبناء لا يولدون صفحة بيضاء تماماً، كما يقول الكثير من الناس، ولا يمكن تشكيلهم كأنهم عجينة! إنما هم بشر، لهم طباع واتجاهات، تظهر بوادرها منذ الصغر، لهذا لا بد من مساعدتهم على اكتشاف ذواتهم وطباعهم ومهاراتهم، هذا الاعتراف باستقلالهم وتميزهم عن ذات الأب والأم؟، فهم ليسوا نسخة من والديهم. هذا الاعتراف يؤدي إلى تقبلهم كما هم، مما ينتج عنه التوافق في الآراء والقرارات المتعلقة بمستقبل الأبناء.

الاستثمار في الأبناء أمر مهم يضاف إلى محبتهم لذواتهم، ويكون ذلك بتعزيز ثقتهم بأنفسهم وتأكيد محبة الوالدين لهم وتعميق أواصر هذه العلاقة، مساعدتهم في فهم بيئة المكان الذي ينتمون إليه، تعزير الانتماء إلى وطنهم، فهم ثقافتهم، وتنمية قدراتهم العقلية والنفسية والبدنية والاجتماعية، حتى يمتلكوا ما يعينهم على الحياة الناجحة المتوازنة في دراستهم، عملهم، وأسرهم؛ كيلا يصبحوا مدمني العمل مثلاً على حساب حياتهم الاجتماعية، أو أن يستمتعوا بالحياة ناسين نصيبهم من الرياضات المختلفة ومهملين للطعام الصحي والمتوازن، لأن هذه عادات سليمة إيجابية يحتاجوا إلى غرسها فيهم منذ الصغر، من خلال نمط الحياة التي يعيشونها، فهذا أفضل ما يمكن تعويدهم عليه. الاستثمار في الأبناء أمر أساسي لا يقل أهمية عن الاستثمار لهم، من خلال شراء العقارات والأرصدة البنكية، وليكن الاستثمار فيهم ولهم.