يسعدني أن أحكي لكم اليوم حكاية «السيد حزم»، ذلك الذي ولد وفي فمه ملعقة من حسم، ولا أدري هل أخذ من اسمه نصيباً أم أن نصيبه كله في اسمه. كان يعرف متى يقول نعم ومتى يقول لا، ويعرف أجندة حياته وجدول أعماله، وهو الخبير بالوقت وتداعياته وسيوفه القاطعة. كان مُنظَّماً ويعرف جيداً كيف يرتب أفكاره في رأسه وينتقي مفرداته؛ ليقول كلاماً مفيداً مرصوفاً مُقنِعاً، لا مُقنَّعاً.
ورغم حزمه إلا أنه كان ذا علاقة طيبة بالمرونة، كان يعرف جيداً متى عليه أن يصطحبها معه في جيب سترته، وكيف عليه أن يكيلها بالمكيال ليُشْهِرها وفقاً للزمان والمكان والدوافع والحيثيات. حاولت المرونة المُطلَقة أن تبيعه الخُدَع تلو الخُدَع، وأن تنصب له الفِخاخَ تلو الفِخاخ، ضمن سعيها الحثيث للإتيان برأسه. نأى بنفسه عنها مرات، وتجاهلها مرات أخرى، وعلى حين غفلة استجاب لها فوجد نفسه في متاهات لم يعهدها من قبل، فقرر أن يعتبرها تحدياً يُضاف إلى قائمة التحديات التي اعتاد تجاوزها بهمته وإصراره، إلا أنه بات يرى نفسه في منامه يغرق ثم يستيقظ ليواصل الغرق وهم يقولون له: إياكَ إياكَ أن تبتل بالماء، مع الاعتذار للحلاج.
صار يقف أمام المرآة فتعبس في وجهه آلة خارقة تعمل منذ الأزل وإلى الأبد، فلا تكل ولا تمل ولا تتكلم ولا تستوضح، وتلك آلة كل همها أن يقف الوقت في صفها ذات يوم. ورغم صمتها غير أنها كانت تصدر أحياناً وشوشة مضطربة متقطعة لا تسمعها إلا آلة شبيهة بها. 
صار القلقُ شقيقَه، والأرقُ أعزَّ أصدقائه، ومن دون أن يشعر وجد نفسه يصافح التخبط والضياع، ولأول مرة في حياته فهم ما تعنيه كلمة «صداع». وحين افترسه الضغط النفسي، وأحاط به عدد لا بأس به من الأمراض العضوية، ما كان منه إلا أن يصحو ليستعيد حزمه، وبعبارة أخرى «يستعيذ» معتذراً لها عن خطئه الفادح المتمثل في التخلي عنها والخذلان، وبمنتهى الحزم رفع شعاراً يقول: «كم يسعدني أن أتحلى بالمرونة المُطلَقة، وسأتمكن من ذلك حين تتخلى عقارب الساعة عن طبعها الأصيل المتمثّل في الدوران».