كبرت البنت، وها هو الشاب الذي أحبها، وقلبها دق له أيضاً، يطرق باب ذويها طالباً يدها، لينطلقا معاً في دروب الحياة بحلوها ومرها، مع وعود بالحب والدفء والرعاية المتبادلة. كانت قد أمضت السنة الأخيرة في الخارج، من أجل الدرجة الجامعية الثانية، وتلك كانت المرة الأولى التي تبتعد فيها عن حضن والدتها بالمعنيين المجازي والحرفي. الآن وقد أصبحت في منتصف عقدها الثاني من العمر، هي واثقة كل الثقة بأنها قادرة على العناية بنفسها، وقادرة على اتخاذ قراراتها وتحمل نتائجها السلبي قبل الإيجابي، هكذا تمت تربيتها. أن تكون قوية ما استطاعت، أن تنظر للحياة بعين المقبل دائماً، وكمن يملأ قلبه الأمل الدائم المتواصل بأن الله يظلها بظله ويرعاها برعايته، وهذا الدرس اليومي الذي اعتادت سماعه من أمها قبل دخولها قاعة الامتحان، وقبل السفر، وقبل العمل، وحتى عند الشعور بالألم أو الندم.
لا تدري لماذا هناك غصة في قلبها تمنع عنها الفرح، فكل ما حولها منير ولامع، ولا مبرر على الإطلاق لمشاعرها السلبية، فمستقبلها أصبح أكثر وضوحاً الآن، بشهادة جامعية عليا بيسارها، وبحبيب خلوق جميل يتأبط يمينها. وبينهما مستقبل مهني رفيع. إلا أنها تشعر بأن شيئاً ما ينقصها، أو تفتقده، من دون أن تدرك فعلاً ماهيته، أسئلة متعددة في رأسها لدرجة أنها تسبب لها أرقاً وصداعاً دائمين، من دون أجوبة فعلية. لم تعرف ما الذي يؤرقها إلا لحظة ارتمائها من جديد في حضن والدتها، ولحظة سماع صوتها الشجي مرة جديدة، يقول أنا معك وسأبقي معك لا تقلقي، أقبلي بكل قلب مفتوح على الحياة وأنا خلفك. وهنا أدركت أن تلك لحظات افتراضية، ظنت فيها أنها كبرت، ووعت أنها واهمة أنها اعتقدت بقدرتها على الاستغناء عن لمسة والدتها، وقبلة والدتها، وحضن والدتها، حتى لو تزوجت وأنجبت عشرة أطفال.
بمجرد أن وضعت رأسها في حضن والدتها، اختفى الصداع وغطت في النوم.