هناك صوت طرق رأسي، يستمر في الزقزقة، وأحياناً يتحول إلى نعيق يؤلم روحي، يجعلني أخرى غير التي أريد، أتظاهر بالفرح المتتالي، والاجتهاد العالي، وشغف العمل، وحب الخير، وكسب العلاقات، ابتكار أيام مليئة بالتفاصيل، الانشغال بالناس عن الناس، والنأي عن النفس بالغرق أكثر داخل النفس، إثبات الخوف من الفقد عبر البكاء والنحيب لأي راحل غريب وقريب.
قرأت مقولة مقتبسة في كتاب «المتطوعون» منذ فترة، كانت منسوبة للكاتب تشارلز فرومان - مدير فرقة مسرحية «غرق مع سفينة لوسيتانيا» يقول فيها: لماذا نخاف الموت؟ إنه المغامرة الأجمل في الحياة.
أذى قراءة الفكرة حينها كان أشد إيلاماً من تصور ذلك، لأني موقنة في قرارة نفسي بأننا أصبحنا لا نعير فكرة انسحاب الروح من البدن أهمية كالسابق، ولا نخاف فقد الأشخاص، ولا اختفاء أيامهم من حياتنا، بل تخاف أنفسنا من رتابة الشعور، عدم الحزن أو حتى رغبة البكاء، عادية اللحظة، وبلادتها.
أذكر حديثاً لصديقة فقدت قريباً لها، تصف بلاهة اللحظة وقت الفقد، فهي لم تكن تبكي القريب ولا عائلته، كانت تبكي نفسها، غرابتها، عدم حزنها حينها، الهواء الذي يفصلها عن البقية، عن تركها للجميع سوى نفسها، عن تلاقي عينيها مع الكثيرين من دون إظهار رد فعل يذكر. واعترفت حينها بينها وبين نفسها بأنها إنسانه سيئة، سيئة جداً.
تظل في تلك الحيرة التي تأكلها، لمَ هي من دون البقية؟ وبعدها تعود للنقطة الأولى مجدداً لتحليل كل ذلك، فترى الصبية الصغار في قاعات السينما يقفزون فرحاً لكل لحظة قتل، ويشجعون الشخصية على المضي في زهق تلك الروح من دون تردد وتفكير. تقبّل خبر موت الأشخاص وكأنه تفصيل تكميلي لليوم. وتيرة الحياة التي جعلت الآخر غير مرئي بمجرد اختفائه من الحياة، ونسيان اللحظة والمضي قدماً، فالحياة تستمر بنا في نهاية المطاف.
لا أستطيع إخراج ذلك الصوت من رأسي، هو الذي يقول إن في الخارج صباحات جميلة، وأياماً مشرقة، وابتسامات ممتدة لكل الوجوه، وفي الداخل إغماض العين، وإيقاف رفة الرمش، وجمود الوقت، وإدارة ظهورنا للعالم بالصمت، واختيار الزاوية المثلى، وماء الليمون، والابتعاد عن البشر لمحاولة كسبهم داخل نفسك مجدداً.