الثقافة ليست معارف وعلوماً عن العالم المحيط بالإنسان فحسب، وإنما تشمل العلوم الإنسانية من الفنون والآداب إجمالاً، النفسية والاجتماعية منها خاصة، أي عالم الإنسان ذاته، إدراكه لما يعتمل في داخله، من خلال تحديده لغاياته في هذه الحياة، وأسلوب عيشه، وعلاقاته بالآخرين. هذه ثقافة ضرورية لكل شخص، فعدم إدراكها والوعي بها يوقع المرء في مشكلات جمّة، وأما تحصيلها فيكفل للناس العيش برضا وهناءة بال، تلهم المرء على بلوغ ما يتمناه، ما يحبه وما يكرهه، نقاط قوته وضعفه، حدوده مع الآخرين، ردود أفعاله المتوقعة، مدى قدرته على التسامح، كما تمنحه فرصة لمساعدة أحبائه.
هناك بعض الناس ينسون في زحمة الحياة أن أحبابهم القريبين منهم أولى بمعرفتهم وفهمهم من الآخرين، أحقّ بالجلوس والحوار الحقيقي والعميق معهم؛ كي لا يكتشفوا بعد سنين طويلة أنهم لا يعرفونهم حقّاً! من تلك الحكايات الرجل الذي يجلس وحيداً، يقلّب القنوات التلفزيونية تارة وهاتفه الذكي تارة أخرى. بينما أبناؤه المراهقون منهم من يدرس ومنهم من يحادث صديقه، في حين أن ابنته وزوجته تجوبان أوروبا! لم يكن إلا ضحية الطلاق العاطفي، لقد عادت له زوجته بعد غضبها، حين أهدى عمّه الشاليه من دون استئذانها. لقد أحرجها حين علمت بذلك من الآخرين، لم يكن يدرك كم أحبت ذلك المكان! وقيمته لديها، إضافة إلى عدم أخذ رأيها. ورغم أنّه اشترى لها بعد ذلك شاليهاً أفضل وأكبر، سجّله باسمها، لكنها عادت بعد أن بُني بينهما حاجز نفسي كبير، بقيا زوجين من أجل الصورة الاجتماعية، ليس أكثر. اكتشف بعد عشرين سنة أن زوجته صارمة في العقاب، لا تعرف معنى الغفران، ولن تعفو عما فعله أبداً.
وإذا كانت تلك استبدلت في صحبتها وحياتها الاجتماعية الابنة بالزوج، فهناك زوجة استبدلت الولد الذكر بزوجها وابنتها ! فبعد سنوات من إنجابها البنت، مرّت بإحباطات متراكمة من جراء حالات إسقاط حمل عديدة، ثم جاء الولد، لتقرر أن تعيش حياتها وتبتعد! هي لم تصارح زوجها بكل إحباطاتها وبأحوال قلبها المعتصر ألماً، ظلّت صامتة. هو ظنّ أن وجودها مضمون في حياته، لم يسألها أو يحاورها، أو يتفهم أسباب عصبيتها وغضبها، كل التراكمات انفجرت، لم يساعدها على أخذ الاستشارة النفسية والاجتماعية، تحت شعار العيب، وماذا لو عرف الأقارب عن زيارتها للطبيب! استبدلت ابنها به، ما زالت تعاني الهوس. إن معرفة الآخر أيّاً كان ابناً أو زوجاً أو قريباً أو صديقاً تكون بمعرفة طباعه وعاداته، ملاحظتها وتحليلها جيداً، والحوار حولها؛ لأن الصامتين في العالم، بحاجة إلى من يخرج صراخهم من أدغال أرواحهم الحساسة المتعبة؛ من أجل راحتهم ومساعدتهم.