تنتشر في بريطانيا ظاهرة في المقاهي، حيث ترى رجلاً مسناً تجلس معه سيدة في منتصف العمر، ويسهل عليك، بمجرد سماع حديثهما، أن تكتشف أن الرجل يدفع مالاً مقابل هذه الجلسة الكلامية، وعادة يتقدم الرجل في الحضور للمقهى ثم تأتي السيدة، وتلاحظ أنها تجر الكلام منه جراً فتسأله عن نفسه وحياته، ويتبدى أنها تغصب نفسها غصباً للاستماع، وتنتهي الجلسة في توقيت محدد، كما تبدأ في توقيت محدد وتتكرر يومياً بروتين دقيق، وفي مرة من المرات، لاحظت تغيراً لافتاً في نظام الصحبة مدفوعة الثمن، حيث رأيت رجلاً مسناً لكنه فتي الجسد والذاكرة، يصحب آخر مسناً ممن يدفع المال لساعة من الصحبة، وفي هذه المرة تغيرت حيوية الجلسة فالرجل المصاحِب (بكسر الحاء) انطلق يحكي على جليسه المسن بأنواع من القصص والطرائف، لدرجة تركت معها كتابي وصرت أسترق السمع له، وفي المقابل كان المسن يستمع بشغف ويضحك ويستزيد من السماع، ثم نهض المصاحب وودع المسن، مع تأكيد موعد الغد، ومن جهتي فقد انشغلت بمراقبة حال المسن بعد خروج مرافقه، وقد بدا عليه الانسحاب ودخل في صمت يعزله عن واقعه، وهنا يتكشف أن المسن في حاجة لسماع الأحاديث وليس جرجرتها من لسانه، وقد رأيت الفارق الكبير بين فتيات الصحبة قليلات الخبرة ممن يبادرن لجرجرة الكلام من المسن، وفرق ذلك عن مرافق فتح فمه وكأنه برنامج منوعات إذاعية، ليخرج المسن من الفراغ ومن الملل إلى رحابة اللغة بكل صيغها الشفاهية.
لا شك في أن اضطرار المسن إلى دفع مبلغ مالي من أجل ساعة في مقهى، ليس سوى محاولة لعلاج الصمت والعزلة، وهذه لن تتحقق إلا بفتح خطوط التواصل إرسالاً واستقبالاً، وكلما كان المرافق ثرياً في لغته، فإن للغة سلطاناً جباراً في تغيير ظروف المكان والإنسان، وفرق بين ما يعرفه المسن عن نفسه ويضطر إلى ترداده، وبين ما يأتيه من أحاديث تتنوع وتتفتح مع المحادثة، لتجعل المسن يعيش اللغة بكل شروطها، فتكسر عقدة الصمت وعقدة التكرار المملل، وتظل المقاهي عالماً من عوالم ألف ليلة وليلة، غير أنه عالم واقعي ترى فيه البشر بكل أحوالهم وصروفهم.