ما إن نطق آدم بأولى كلماته على الأرض حتى تساقطت بذور الحكايات، نمت، أزهرت وأثمرت. هي أول الحكي، فاكهة المجلس، لذة السامعين، مغناطيس يجذبهم إلى الراوي، بعض القصص تحبس أنفاسهم، يعيشون اللحظات، مصيخين السمع، كأن على رؤوسهم الطير، طيورهم مثلهم منوّمة بفعل ما يأخذ الألباب. بعضهم يتخيل أنه وحده المخاطب، أو يتراءى له في عين خياله أنه هو البطل الذي تسرد حكايته. قصص يحيكها المرء عن الموضوعات البسيطة، التفاصيل اليومية، والجليلة، نسمع الناس - غالباً - يتساءلون عن أي شيء: ما القصة؟ ما الحكاية؟ ليستفسروا عمّا حدث، إنهم ينسجون بها ومن خلالها قماشة الأيام والسنين.
الحكاية إرث الإنسان، بصمات الأمهات والجدات. بنت الدهشة والمتعة، منذ سكن البشر الكهوف، ثم تقاسموها في أسمارهم على نار الشتاء، تبقى بلا وقت يحددها، ولا مكان يقيدها، هي حاضرة حيّة مشاغبة فضولية، في كل زمان ومكان. حتى في الصمت تحضر بقوة، فعندما يدخل الشخص مكاناً خالياً، حيث الصالة هادئة إلا من صوت موسيقى خافتة، لحظتئذ لا صوت يعلو على لحظة هدوء مقتنصة، تروي حكاية من مرّ هناك. من العجيب أن تتشابه بعض الحكايات الشعبية في العالم في أصل القصة في جوهرها وأكثر تفاصيلها، كأنها تناسلت من ماء الحياة ذاته، تقطعت حبالها السرية في كل البقاع.
يمتح بعض المبدعين من أنهار حياتهم، بعضهم يستمد حكايته من طفولة قاسية، أو حب غير مكتمل، قسوة تحيل إلى الإبداع أو إلى ألم أو إلى عقدة نفسية، أو كلها معاً تتشابك في نفس مبدع حساس. يقول أورهان باموك: «الأدب هو موهبة، أن نحكي حكايتنا الخاصة كما لو كانت تخص الآخرين، وأن نحكي حكايات الآخرين كما لو كانت حكايتنا الخاصة». بعض الناس ممن ليسوا مبدعين، يكملون قصصهم في عالم الأحلام، كي تبعث فيهم أمناً واطمئناناً، تمنحه القوة لتجاوز الصعاب. يقول مارسيل بروست: «إننا نتمتع بموهبة اختراع الحكايات كي ندغدغ ألمنا». هي بلسم شافٍ حين يعيد بعضهم ترتيب حياته في سرده؛ لتصبح محتملة. كل شخص لديه حكايته، مجده الخاص، حلمه غير المكتمل، فهي لسان الأمل الصدوق، تبقى سحابة تظلل الناس في هجير الصحراء، أو كلما احتاجوا لدفقة أمل. والحكي يطول ولا ينتهي.