كنت طفلة في تلك الأيام، لكنني ما زلت أذكر تجربة حضور المجالس كأنها اليوم، المجلس أو البرزة أو سموه ما شئتم، هو مكان تلتقي فيه حكمة وهيبة الكبار مع الشباب وحتى الأطفال أحياناً، هو مكان إماراتي بامتياز تلقينا فيه أهم علوم الحياة وصقل شخصياتنا من دون منهاج أو كتاب، بل بملاحظة كل ما يحصل في المجلس. طريقة استقبال الضيوف وتوزيع المقاعد، أين يجلس القادة وكبار السن وأين يجلس حديثو العهد بحضور المجالس، كيف يتحدّث الناس وغيرها الكثير.
كُنت محظوظة بمرافقة والدي بطي بن بشر، رحمه الله، الذي كان يشاركني في معظم أنشطته منذ كنت طفلة صغيرة وخاصة تجربة حضور مجلس المغفور له الوالد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، فهناك تعلّمت الكثير في كل مرة سنحت لي فرصة هذا التشريف، رمسة عاشه هذه، ولدت في ذهني وسط مشاعر من السعادة والفخر في كل مرة حضرت فيها مجلس قيادتنا الحكيمة، مثل مجلس صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، ومجلس صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الذي حضرته مؤخراً أيضاً.
كتبت قبل هذه المرة عن المجلس وأهميته في بيوتنا، ولكن هذه المرة مختلفة، فالمجالس أكاديميات لعلوم لم تحتوها الكتب ولن نستطيع تدوينها، ولو حاولنا، لأن مستوى المعرفة الذي يُقدمه حضور المجالس يتعرض لتحديث مستمر منبعه خبرات الحياة والقيادات. قد يكون مُبرر الكثيرين وأنا منهم أن سرعة الحياة والانشغال الدائم يحولان دون إعادة إحياء عادة تنظيم المجالس خارج المناسبات مثل الأعياد وغيرها. ولكن سيكون من الجميل إيجاد أشكال عصرية للمجلس تناسب ميول جيل الألفية وأبنائنا بمختلف مراحلهم العمرية، ليكتسبوا نُضجاً حياتياً لا يحصلون عليه في المدرسة عادة.
التطوّر الرقمي والحياة العصرية ثروة لنا لم يحظَ بها أجدادنا، ولكنّ اندماجنا فيها أكثر من اللزوم يجعلها تسرق أيامنا بدلاً من أن تثريها، ولذا أرى أن في التقنية فرصة لإحياء المجالس أو ما يشبهها بروح تثير فضول واهتمام الشباب، مثل توظيف مجموعات «الواتساب» العائلية أو منصات الأجداد على «السوشيال ميديا» وغيرهما الكثير، ونجعل هذه المحطات طريقاً يحفّز جيل الشباب لاستكشاف المجالس بصورتها الأصيلة والاحترافية إن جاز التعبير. فهل نحن مستعدون لإعادة ولادة شخصياتنا وشخصيات أبنائنا من المجالس؟