إنه عملٌ مراوغٌ جداً ولا طائل منه، وعندما وقعنا في غرام الشعر لم نجد من يخبرنا بخطورة ما نفعله، ليس ثمة تحذير لإخلاء المسؤولية يشرح لنا مخاطر التجربة، لأنك حين تكتب الشعر فأنت لا تعرض فحسب أفكاراً طارئة أو مشاعر مؤدلجة، إنك تقشر لحاءك الإنساني طبقة بعد أخرى وتتباهي بندوبك على الملأ، وتتصرف عكس الممارسة المجتمعية السائدة، التي تقضي بدفن كل الشوائب التي ينضح بها السلوك الإنساني خلف قناعٍ سميك من المثالية الزائفة، وذلك يحتاج وعياً هائلاً بعمق المأساة، لكنه كذلك يتطلب سذاجة محببة تمكنك من فضح نفسك من دون مرارة أو تحرّج، أن تكتب الشعر، فأنت توافق ضمنياً على الوقوع في فخ الفضيحة بشكلٍ طوعي، وتعرض دهاليز عقلك على الغرباء، تعرّفهم بالذكريات وتفتح لهم الأبواب، وتريهم جمال الأرائك، وخربشات الجدران، والعفن الذي أحدثته الفيضانات، والأثاث المتردي من كثرة الاستخدام، هذا الذي تعرضه بكل أريحية عبر قصائدك الطائشة عزيزي الشاعر هو خصوصيتك القصوى وأشياؤك ومقتنياتك.
يواجه الشاعر باستمرار صعوبات جمة حين يتم وصمه بالشعر، لأنه لا يؤخذ على محمل الجد رغم جديته المستميتة، ولا ينجو من الشك المستمر بأسبابه، وفي خضمّ كل هذا عليه أن يفطن لخدر التكرار، وخذلان الكلمات، وخيانة الإيقاع، والتأرجح باستمرار على حبل الفهم الرفيع.
أن تكتب يعني أن تكون شهاباً آنيّاً، مستعداً للاحتراق في سبيل التعبير عن كينونتك وقابلاً للانطفاء حين يتطلب الأمر ذلك، راضياً بتعرية عقلك في سبيل كتابة قصيدة عظيمة لكنك غير متوافر لرداءة الحوارات اليومية، عليك أن تقاوم - كمن يقاوم الغرق - كل تلك المطالب الجادة بكتابة أشياء لا تُسَبب القلق لا تخلق توتراً ولا تربك القارئ، سيريدون منك قصائد هزيلة مبتذلة، تجعلنا جائعين للمزيد من الهراء عن الفرح الكاذب والغزل الممجوج، حذارِ أيها الشاعر، حذارِ أن تجعل القصيدة سبيلاً للتودد للجماهير، سوف ترزح تحت ثقل كل الأشياء التي وددت أن تنقذها، وسوف تؤذيك خشونة الحقيقة، وتلمس بصوتك كلّ جرح جزعت من تسميته، وهنا تكمن اللذة القاتلة.