قال الشاعر: (أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى.. فصادف قلباً خالياً فتمكنا) وهذه قاعدة ثقافية عامة، فكل فضاء خالٍ يصبح مهيأ لحلول ضيف جديد عليه، والذهن البشري هو فضاء الأفكار فكلما صار خالياً صار قابلاً لتقبل أي شيء يرد عليه، وهذا أمر يسهل تصوره، ولكن التعقيد يحدث مع الأذهان المتشبعة فكرياً، حتى لترى أن من نسميهم الكبار بالمعنى الثقافي هم أشد العينات البشرية تمنعاً أمام أي فكرة تحاول أن تدخل رؤوسهم، وذلك لأن هذه الرؤوس ممتلئة ومكتنزة بالأفكار التي تمكنت من الاستقرار، ولهذا نلحظ أن أشد المبارزات الفكرية تقع بين الكبار فكرياً، والخلاف الضخم بين فرويد ويونج كان مثالاً مرعباً عما يمكن حدوثه بين الكبار، حيث تحولت صداقتهما ورفقتهما العلمية إلى عداء عميق وصارخ، وسبب هذا هو أن يونج أخذ يطور نظرياته ببعد يختلف عما تأصل لدى فرويد، وهنا حضر صراع الرؤوس بين رأس متشبع وآخر يهم بتغيير المستقر عند صاحبه، وفي المقابل فإن من جاء بعدهما تمكن من تقبل هذا وذاك، أي أن أفكارهما ليست متضاربة حد التصارع، ولكن صراع فضاءات الذهن بينهما يختلف عن أي فضاء آخر لم يتشبع بعد. وكما الأفراد سنرى الثقافات القومية، فالأمة ذات الفضاء الخالي ستكون كالقلب الخالي.
ومثل ذلك يحدث مع الأفكار والنظريات، فأميركا هي أكثر المجتمعات البشرية المعاصرة تقبلاً لنظريات تأتيها من الشرق، وكل نظرية تتعطل في أوروبا ويتمنع عليها القبول تهاجر إلى أميركا وتنتشر، وحصل هذا لأينشتاين، حيث سخرت ألمانيا من أفكاره، ووجد القبول في أميركا، وكذلك جاك ديريدا، كما أي فكرة نظرية أو تقنية تجد كلها سبل النجاح مفتوحة لها في أميركا لأن أميركا لا تزال مجتمع الهجرة، وكل غريب للغريب نسيب، ولم يتشبع هذا المجتمع بعد من الحس القومي العرقي الصلب، كما هو في القارة العجوز، وزميلاتها العجائز الأخر، آسيا تحديداً، حيث تشبعت القارتان بحضارات وثقافات وتواريخ مكتنزة مثلها مثل الرأس المتشبع، وهذا يفسر صعوبة تقبل مجتمعاتنا للفكر المختلف إلا بعد مجاهدة لأن الرأس يقاوم التنازل عما فيه من كنز، ويصعب عليه إحلال جديد محل قديم مترسخ، ولهذا تحتال النظريات بدعاوى تزعم فيها أن هذه النظرية الجديدة تتصل بشيء قديم من تراث الأمة، وهي حيلة ثقافية لتسويق الجديد وتمريره لكي يجد خانة ينفذ منها لتمكين نفسه.