شاطئ المدينة في ذلك الصباح لم يكن إلا قصيدة، نسيم الذكرى يهب على النفس، يحرك فيها لوعة الشوق والفقد، لذاك الصبح المسفر، رغم أنها كانت وحيدة، لكنه بنفسها مختلية ومكتفية. نهار أشرقت شمسه من خلف البنايات السامقة، في خجل تطل من بين السحاب، هي شمس الصيف الذاهبة رويداً لأيام الخريف، المبلولة أحياناً بزخات مطر مفاجئ، تبهج الروح وتغسلها، ترسم البهجة على محيا اليوم.
النهر من صفائه وجماله يعكس السماء، فيتوه الرائي، تتراءى له الطبيعة منسجمة، النهر يشرب لون السماء، التي تحاكيه اتساعاً وهدوءاً. الأمواج تتهادى خلف بعضها، كأنها تبتسم في دلال للعابرين هذا الصباح، بعضها يتدافع، بعضها يتهامس متبختراً نحو أقدام الصخور. من أول النهار، وهي تعيش لحظاتها، برفق تأخذ اهتمام بعض المارين، تسحبهم من عالمهم المتسارع ؛ ليتأملوا النهر؛ يقفون أمامه، يسمعون صوته، هو العابر من خلف السنين، مازال صامداً محباً معطاء، يسري خرير المياه كالسحر في أرواحهم، ينصتون بملء قلوبهم وأسماعهم له؛ ليحررهم من المشاغل الصغيرة والتفاهات، يلامس عمق آلامهم، همومهم، أحلامهم، فمتى آخر مرة ذهبت إلى النهر أو البحر، مستمتعاً أو شاكياً؟ متى ألقيت عن كاهلك ما يثقله؟ إلى متى يبقى المرء منفصلاً عن الطبيعة؟
لم يكن الشاطئ إلا قصيدة، حين يبقى الشعر دوماً موطن الخيال والجمال، أرض سرية، لا أحد فيها يسير على الدرب ذاته. وإذا كان الشاطئ قصيدة، ففي داخل كل واحد منا قصة ليست بالقصيرة، نبوح للنهر بكل شيء، نزعجه، نرهقه، يسمع لا يملّ، في نهاية اليوم يرمي بتلك القصص إلى الأعماق. أما هو فلا حديث له إلا الجمال. يرتاح المرء ويهدأ، لكن النهر لا يجد أحداً يبوح له بأسراره. هل يبحث عن سعداء مطمئنين، لا يعلو ضجيجهم الداخلي على صوته، من أجل أن يسمعوا تجاربه هو الشاب الذي لا يشيخ، لو تحدث فماذا سيقول؟