أحبَّها اسماً وهو صغير، قبل أن يعرفها أو أن تطأ قدماه أرضها..
البحرين، تعرَّفَ إليها شجرة وارفة الظلال كثيفة الأوراق داكنة الخُضرة، شامخة تفيضُ أغصانها بزرازير الظهيرة وثمار قانية الحُمرة مثل قلوبٍ صغيرة. يفترشُ ظلالها طفلاً، ويستندُ إلى جذعها الذي ترك آثار لحائه على ظهره الغض، في حديقة بيت الجدَّة التي تُسمي شجرتها الأثيرة «لوزة البحرين». ومُذ ذاك اليوم والبحرين في وعيه؛ شجرة.
حينما كبر قليلاً، أدركَ أن البحرين دولة، فتخيلها جزيرة تطفو في الخليج، تغصُّ بغابات من أشجار لوز البحرين ذات القلوب المنثورة بين أوراقها، تشبه تلك التي احتضنته في أظهار الصيوف اللاهبة، تُلقي عليه ظلالها الحانية وتحاوره بتغاريد طيورها.. بحرين الظلال والتغريد وحلاوة ثمارٍ سكرية حامضة و.. عطف جدَّة.
كثيرة هي البلدان التي تحتل أركاناً في القلب، كلها غير، ولكن البحرين تتفرَّد عن الغير بأنها غير الغير كله، هي التي تبدو حقيقية وإن تطاول البنيان فيها وتسابقت الأبراج تناطح السحاب، في البحرين شيء فريد مرهون بقاؤه ببقاء البساطة في نفوس أهلها، سككها العتيقة، أصالة أغنياتها، وأمومة اللهجة في ألسِنة ناسها، رجالاً ونساءً، أطفالاً وشيوخاً. والنخيل، حتى أشجار النخيل التي شحَّ وجودها تبدو في البحرين أجمل، كما لو أنها نمَت في موطنها، إلى حدٍّ تجهل فيه أيهما يُلقي ببهائه على الآخر، البحرين أم نخيلها.
لو لم يحقق حلمه في الهجرة ذات غد، ويشدّ رحاله إلى مكان بعيد جداً، سوف يحملُ معه لا شيء، ويمضي صوبَ البحرين بسيارته التي اعتادت عبور الجسر دخولاً على أنغام أغنية كويتية قديمة «يا لثوب النشل والعود والحِنَّة/ يا طيبة هلي ورويحة الجنة»، وخروجاً عبر الجسر ذاته يترنم بأغنية «يا لزينة ذكريني»، تفوح سيارته بروائح هداياه لجدَّتِه التي أحالت البحرين في وعيه إلى شجرة. يتنشَّق روائح تنبعث من الصناديق والأكياس؛ دهن عود وبخور وحنَّاء ومتَّاي وحلوى ومرقدوش وماء لقَّاح وزموتة.
هذه كلمات قليلة من كثير مشاعر، لعل دافع كتابتها جاء بمنزلة ردٍّ على سؤال قارئ متابع: ما قصة البحرين معك؟ في رواية «ساق البامبو» يُشيد الأجنبي بأهلها، وفي مسرحية «مذكرات بحَّار»، ترسو سفينة الغوص في أحد موانئها؟
ربما كان من الأجدى ألا تطول الإجابة على شكل مقالة قصيرة، وشجرة الجدَّة الأثيرة بقلوبها الحمراء ماثلة أمامه أثناء الكتابة، إذ تكفي الإجابة:
لأني أحب البحرين.