لا تزال نساء تونس يحافظن على إعداد «العولة»، وهي عبارة عن مخزون من المعجنات والمكسرات والتوابل، من أجل استعمالها في فصل الشتاء القارس، واللافت أن جميع مناطق البلاد التونسية تحرص على المحافظة على هذه العادة، حتى إن الفتاة حين يطرق الزواج بابها، فإن الحماة تبادر بطرح بعض الأسئلة المتعلقة بتفاصيل إعداد «العولة»، حتى تتأكد من أن عروس ابنها ربة بيت ممتازة، وبالتالي تتأكد أن ابنها أحسن اختيار المرأة التي ستحافظ لاحقاً على صحته وصحة أبنائه.

«العولة» عادة موسمية أوجدها الإنسان لحفظ المواد الغذائية والاستفادة منها على مدار العام وتأمين القوت ودرء خطر الجوع والفاقة، فهي ضرورة اقتصادية واجتماعية في آن، وعلى الرغم من تخلي البعض عنها لمصلحة المواد الجاهزة المعلبة، فهي لا تزال راسخة في المجتمع التونسي وثقافته، تسهم في ضبط ميزانية العائلة وتوفير الكثير من المصاريف، لاستخدامها مواد خاماً والاستغناء عن التعليب والتصنيع وتكلفته المضافة، وتكسب الأطعمة نكهة خاصة تدغدغ الحواس وتذكرنا بالجدات وبكفاءتهن في إدارة البيت والمحافظة على صحة أفراد الأسرة.

عادة مرتبطة بالصيف
فور حلول فصل الصيف، فإن نساء كل حي يتفقن على تقسيم الأدوار والتجمع كل أسبوع في بيت إحداهن، لإعداد «العولة»، فتحرص صاحبة المنزل على فرش السجادات الحريرية في حديقة المنزل، وتجهز المكان الذي ستتجمع فيه جاراتها، ومع خيوط الصباح الأولى تبدأ مظاهر الإعداد وتنطلق رائحة البخور، وتصدح الأغاني التراثية والأهازيج الخاصة بالأفراح، وتلتقي النسوة ويبدأن في إعداد مختلف الأكلات من كسكسي وبرغل وفلفل وكروية وحمص وغيرها، في أجواء احتفالية ورثنها عن جداتهن، ووسط هذا الجو البهيج المفعم بالفرح والسرور، تقدم ربة البيت بين الفينة والأخرى صينية شاي تفوح منه رائحة النعناع الأخضر، وتتدحرج في عالية الكؤوس حبات بندق بيضاء تضفي على طعم الشاي نكهة خاصة، فترتفع الزغاريد المتعالية من حناجر النسوة، ويواصلن عملهن بكل إتقان.

الكسكسي الطبق الأبرز
يعتبر «الكسكسي» أبرز غذاء يتم إعداده وتخزينه من شمال البلاد التونسية وحتى جنوبها، حيث تضع النسوة الطحين في «القصعة» وهي إناء نحاسي كبير، ثم يضفن بعضاً من الماء المملح والدقيق ويُحركن أيديهن بحرفية بالغة وسطتها، ويتداولن على استعمال الغرابيل الواحد تلو الآخر حتى يحصلن على مادة الكسكسي، التي يتم تفويرها على النار بوضعها فيما يُعرف في تونس بـ«المقفول والكسكاس» وهما إناءان أحدهما مغلق يوضع فيه الماء، والآخر مثقوب حتى يدخل البخار في الكسكسي، ويطبخ بهذه الطريقة، ثم يُنشر على شراشف باللون الأبيض تحت أشعة الشمس لمدة تزيد على أسبوع، ثم يوضع في أوانٍ فخارية كبيرة، ويُخزن بأعواد القرنفل حتى يحافظ على رائحة عطرة، ويُستهلك طوال فصل الشتاء، ودائماً ما ينتصر «الكسكسي الدياري» أي المصنوع في البيت على الكسكسي الجاهز الذي يُباع في المحلات التجارية، إذ يحمل نكهة خاصة ويتميز بأنه صحي من دون أي إضافات كيميائية قد تضر بالصحة العامة للشخص.

في كل مطبخ تونسي
بذات الأجواء الحماسية نفسها، تُعد النساء «الهريسة» وهي مادة أساسية في المطبخ التونسي، حتى بات من الصعب التخلي عنها، وتقوم العائلات الفلّاحة خاصة في الأرياف بجمع الفلفل وتجفيفه تحت أشعة الشمس الحارقة، وما زالت الكثيرات من ربات البيوت التونسيات حريصات على إعداد هذا النوع من بأنفسهن، فيقتنين الفلفل ويجففنه لأيام تحت حرارة الشمس، ثم يقمن بشقه نصفين ونزع الحبيبات البيضاء الصغيرة، وذرّها على التراب لتنمو منها نبتة الفلفل، بعد ذلك تغسل جيداً بالماء وترحى باستعمال الرحى اليدوية مع إضافة الملح وزيت الزيتون والثوم، لتحصل في نهاية المطاف على «عولة الهريسة العربي»، ذات المذاق المميز.

أكلة الشتاء المفضلة
بعد أن تطمئن ربة البيت على مؤونة «الكسكسي»، تبدأ في إعداد مؤونة المحمصة، وهي عبارة عن دقيق مملح تصنع منه دوائر صغيرة الحجم وينشر ويُخزن بطريقة «الكسكسي» نفسها، وهو من أبرز الأكلات التي تحرص النسوة على إعدادها أيام فصل الشتاء، حيث يؤكل ساخناً، وتتفنّن النسوة في تزيينه بالبيض والحمص.