في غمرة احتفال الخيبة بانتصارها عليك، أو ربما ذلك احتفال لها بهزيمتك، وكلاهما وجهان لعملة واحدة.. لا يهم، ما يهم هو أنك في تلك الغمرة تجد نفسك مُجبَراً على الرحيل عن أشياء تحبها جَرّاء أشياء لم يعد في مقدورك الاستمرار في مجاراتها والتبسّم في وجهها.. وهناك تعود خطوة إلى الوراء بدم غير بارد ودمعتيْن كان أقصى أحلامك ألا تعانداك وتجِدا طريقهما بسلاسة إلى كبرياء وجنتيك.
فكأنك في لحظة الرحيل تلك تجد نفسك عند المفترق، وما من مُبْتَغى لك إلا أن تمضي ظافراً بذاتك وصفاء بالك وصحة أعصابك، وتاركاً وراءك شتّى التُّرَهات المأفونة والمعارك الصغيرة الخاسرة وأعواماً من عمرك الغَض، بل زاهداً بالكثير الكثير مما تحب وتأْلَف والكثير مما إليه تنتمي أو ينتمي إليك. وهناك تختار الضفة الأخرى لعلّها تجود عليك بأيام مُسالِمة مُنصِفة لا ناقة لها في الصراعات غير الناضجة ولا جَمَل.
ولعل لحظتك المشهودة قد جاءت ناسخة العديد من المفاهيم التي بها آمنت، وناسفة العديد من الشعارات التي بها ناديت ولها أخلصت، وكأن كل ما فات يندرج تحت عنوان «لم أكن أفهم» أو «لا أريد أن أفهم» أو ربما «لم يحِن الوقت لأفهم»، وكأنّ كل ما هو آتٍ يندرج تحت عنوان «الآن فقط فهمت» أو ربما «حان الوقت لأفهم». فها أنت الآن تفهم أنك بلغت أخيراً مرحلة مُتقدِّمة من الشجاعة، وتلك مرحلة تدرك فيها أن قرار الانسحاب أقوى وأجدى من قرار الوقوف والمواجهة، حينها فقط تختار أن يكون لك ترف الانسحاب، وذلك انسحاب بمنتهى الإقدام.
هنيئاً لك أخيراً كونك لا تبالي بأن يكون للخيبة شرف الفوز عليك، مدركاً أنها في أفضل أحوالها وفي أوج انتصاراتها، لن تخرق الأرض، ولن تبلغ الجبال طولاً، حتى لو أفنت لياليها كلها في الاحتفال بدمعتيْك والرقص على آثار خطواتك الأخيرة. فهنيئاً لك أنْ مضيْتَ بشجاعة كما أتيت. ولعلك ذات يوم تنسى وتنام.