ما قيمة أن تكون الأول في مجال، ما لم تكن سبباً في وجود ثانٍ وثالث و..؟
نقول في المثل الكويتي: «كل من طَق طبله قال أنا قبله»، كما لو أن الأسبقية في إدراك أمرٍ ما هي الغاية من إدراكه، وهو ما يميز بعض السير الذاتية التي نقرؤها على غرار: أول من حصل على كذا، أول من اقتنى كذا دونما أي تأثير لاحق.
أتذكر حديثاً لجدتي حول دخول التلفزيون لأول مرة إلى البيت في أواخر خمسينات القرن الماضي، تقول: «كنا أول من أدخل التلفزيون إلى البيت، مثل كل الناس»، متهكمة على ولع الناس بالحصول على امتياز الأولوية في أي شيء، على أن أول من أدخل التلفزيون في ذاك الوقت المبكر كان سبباً في تعرف الناس إلى هذا الجهاز السحري ومن ثم انتشاره في بقية البيوت. ولما انتشر أن فلاناً أول من أدخل التلفزيون إلى الكويت، تسابق الناس ليصير واحدهم أول من أدخله في تلك المنطقة الفلانية، ثم في الحي الفلاني، ثم في العائلة الفلانية!
كان المسرح الكويتي قبل سنة 1960 حكراً على العنصر الرجالي، حتى الأدوار النسائية يؤديها الرجال، وكان من الصعوبة على المرأة الانخراط في المجال الفني، واليوم يعرف الجميع في الكويت الفنانتين مريم الصالح ومريم الغضبان بأنهما أول من اعتلى خشبة مسرح، ولا تزالان تحملان صفة الريادة، والتذكير بهذه الصفة أمر منطقي، إذا ما وضعنا في عين الاعتبار أنهما باتخاذهما هذه الخطوة الجريئة في ذلك الوقت قد قامتا بتغيير مسار الحركة الفنية وتطويره في الكويت، ومن يدري لو لم تتخذا هذه الخطوة كم سيتأخر انخراط المرأة في هذا المجال؟
حينما توفي الروائي القدير إسماعيل فهد إسماعيل، سارعت الصحف ووسائل الإعلام ترثي «رائد» الرواية الكويتية، وقد رأى البعض في تلك الصفة مغالطة صارخة، إذ إن هناك من سبق إسماعيل في كتابة الرواية، وهو أمرٌ صحيح، لكن ما الذي قدمه الأول؟ هل ترك أثراً حقيقياً أسَّس لما بعده؟ هل مهد طريقاً لثانٍ وثالث؟ وهل الريادة والأولوية في أي مجال تكتسب لمجرد الأسبقية؟ أم أن التأثير والتأسيس لورثة يكملون المشوار هما ما يلزم المرء ليكون رائداً في مجاله وأول من أسس له؟
أقرأ اليوم هاتين الكلمتين: «أول من» في كثير من التعريفات الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، وأتساءل إلى أي مدى يفاخر المرء بهذه الصفة دونما أن يكون لها أي أثر؟ فلا قيمة لأول ما لم يكن هناك ثانٍ.