(تعمر الألوان أحلامنا، هي ألوان لا تشبه شيئاً رأيناه في الواقع، وحين تحاول استعادة تلك الألوان أو وصفها لأحد غيرك تعجز وتتمنع عليك الصفات، لكن لو أعملت ريشتك على اللوحة، فسترى يدك ترسم الألوان التي رأيت في أحلامك). هكذا وصف جيمس تورين علاقته مع أحداث الذاكرة، وللذاكرة مفاعيل غريبة جداً في حياتنا، وقد ظللت أعجب من حالات ذاكرتي وقد تجاوزت الـ70 من عمري، وأجدني فجأة مع حدث صغير جداً، كان منسياً في أعماق ذاكرتي فيطل عليّ من دون استدعاء، وتتولد عنه حالة شعورية لم أشعر بها حين الحدث، وبعد سنين من الحدث أجده أمامي مصوراً بكل تفاصيله، وينتابني ألم شفيف معه، مثل صفعة وقعت على وجهي الصغير جداً وكان عمري 10 سنوات، حيث صفعني مدرس لغير ما سبب، ويتولاني هذا المنظر من بين كل الضربات التي استقبلتها في طفولتي كلها، ولكن هذا يصر وحده على الحضور القاسي والعميق، وأحسن ما في الأمر أني لم أحقد على مدرسي ذاك لا حينها ولا الآن، ولعل هذا هو ما لطف عودات المشهد لي، ربما لكي تتحول لدرس أخلاقي أتلقاه كلما عاد تذكار الحادثة، فأنظر مستعرضاً سيرتي وهل ظلمت أحداً أو قسوت عليه لغير سبب للقسوة، وهنا تشرع ذاكرتي في تنظيف آثامها مستعرضاً كل إثم ارتكبته ضد عاجز لم يكن له قوة يواجهني بها، ولهذا صرت أقرأ الحكمة في مهارة الذاكرة في انتقاء لحظات قديمة من حياتنا لتصنع منها درساً للتأمل والتبصر عبر حدث كان بسيطاً، مقارنة بغيره من أحداث حياتنا، لكنه حدث يمتلك معنى كان يحتاج للتدبر مرة تلو مرة، وهذا نوع من أنواع الأضواء المختزنة في ذواكرنا، وتعلم جيمس تورين كيف يحولها لألوان في لوحاته بما أنه رسام محترف، وسيكتشف كل واحد منا طريقة لرسم ألوان ذاكرته بصيغته المتناسبة مع مهاراته، ومن ثم فإن إعادة تأويل الحدث الذي يصر على الحضور، هو المعنى الذي يظل الحدث يلاحقنا به إلى أن نصنع تأويلنا الإيجابي الذي يقوم مقام غسيلٍ وتنظيف للذاكرة من آثامها.