تشيع هذه العبارة (الجمهور عاوز كدا) منذ ستينات القرن الماضي حتى أصبحت بمثابة النظرية الإعلامية، ولكنها ليست سوى مقولة لتبرير الرداءة، وهي تنطوي على الزعم بأن قائلها قادر على إجادة العمل، ولكنه يختار الرداءة تقرباً للجمهور، وهذا زعم لا يمكن تقبله، لأنه لا أحد يتعمد التنازل عن الجودة، كما أن الوقوع في الرداءة، لن يكون خياراً لعاقل يعي وظيفته في الحياة، ومن جهة أخرى فالمقولة تزعم أن الجمهور هو المسؤول عن الرداءة من حيث إنها مطلب له، وفي المقابل فإن هذا الجمهور المتهم، لم يكن في الماضي يملك الوسيلة لدفع التهمة، ولكن لو تجرأ اليوم ممثل أو منتج وطرح هذه الدعوى، فإنه لن يسلم من عواصف تعصف عبر وسائل التواصل الاجتماعي ترد دعواه وتشنع زعمه، وهذا يعني أن هذه المقولة ليست سوى حيلة بلاغية لمواجهة الانتقادات فحسب.
ولو نظرنا في الأعمال التي نجحت جماهيرياً بحق في السينما والمسرح والغناء، لكشفنا أن ذائقة الجمهور أعلى بكثير من الاتهام الملصق بها، ويكفي أن ننظر في جماهيرية أم كلثوم وعبد الحليم حافظ مثلاً لنحصل على الشهادة الحقيقية للجمهور، وللمسرح العربي الجاد والساخر معاً، وهي نجاحات كبرى بين الناس، وكذلك المسلسلات العربية في مواسمها المهمة، وكلها تكشف عن توجهات الجماهير مع أي عمل تكتمل شروطه الفنية والأدائية.
على أن نظرية اتهام الجماهير كانت سمة ثقافية تتوسل بها النخبة إما للتعالي على الناس، أو لإحالة الخلل إليهم، مثلها مثل مقولة فساد الزمان وفساد الذوق وانحطاط الثقافة، مما هي مقولات يكفيها قول الشاعر: (وهم فسدوا وما فسد الزمان). ويظل العمل الجيد صعباً وتحقيق شروطه صعبة، بينما الرديء كثير وشروطه ميسرة، ولذا ستتراوح الأعمال البشرية كلها بين الجودة والرداءة، وهذه قاعدة أزلية تلاحق حال البشر مع أفعالهم، والنظرية النقدية ستكون حسب مقولة ابن قتيبة (يحكم على الرجل من جيده وإن قل)، ويكفي أن ننظر إلى ديوان المتنبي لنرى أن الذي في أذهاننا عنه هو جيده، أما رديئه الذي يغطي ثلثي ديوانه فقد ظل منسياً بين صفحات الديوان، وهذا مثال ينطبق على كل من احتلوا ذاكرة التاريخ، حيث ينام الرديء وتتيقظ ذاكرة الجيد، ومع الزمن سيظهر الشخص عظيماً، لأننا نستحضر عظائمه وننسى بالضرورة الذوقية صغائره، وهذا عمل لا يعمله سوى الجمهور الذي لا تخطئ عينه الجمال حين يراه، مع غض البصر عن الرداءة.