استقبل هذا البيت التراثي بصورته الحالية، على مرّ ثلاثة عقود، كبار المثقفين ورموز الفن بأنواعه، إنه (رواق البلقاء) الذي ما يزال شاهداً على التزام مؤسسه، وباعث الحياة فيه، الفنان الأردني خلدون الداوود، وعلى صموده ضد الخراب والحروب والقبح، بالحجر والطين والصورة واللوحة والحرف، رافضاً في كل ما يقوم به ابتذال المواقف وتسطيح القيم.

هوية المكان
يراكم (رواق البلقاء) على الأصل التراثي في ملامح المكان، وبعد ترميم المباني التي كانت عبارة عن دكاكين ومحال وبيوت وتحويلها إلى محترفات ومنصات ثقافية وفنية، تحولت المنطقة التي رُصفت أرضياتها بالحجارة والشحف، إلى فضاء للثقافة والفنون والسياحة، فصار يحاكي القرى الفنية العالمية. ويسعى الداوود من خلال ذلك إلى تأصيل هوية المكان، ومنحه مساحة تتسع للعنوان الحضاري والجمالي، والحفاظ على السمة المعمارية، والتي يعود بعضها إلى الحقبة العثمانية بروحها الشرقية.
لدى الداوود عشق واضح لمسقط رأسه الفحيص، يلمحه كل من يتحدث إليه عن قرب، أو راقب أعماله وإنجازاته والفعاليات التي أقامها في تلك المدينة الصغيرة، التي تبعد عن العاصمة عمان حوالي 13 كيلومتراً، ويُلقب سكانها بـ«صبيان الحصان»، لما عُرِف عنهم من كرم وشجاعة وحبّ الضيف.

(مَن أنا)؟
هذا هو أول الأسئلة الوجودية، التي تنبثق عنها كل الاستفهامات الأخرى، فمن هو خلدون الداوود كما يحكي عن نفسه ويراها؟
يقول: «أرى نفسي شخصاً خُلق ليبني ويُعمِّر، ويعيش ليجعل الحياة زاهية باللون، ومُزدهاة بالحرْف، ومزدهرة بالكُتب».
ويضيف: «حلمت منذ الصّغر بأن أحول مدينتي الوادعة إلى تحفة فنية، وكانت البداية من قراري بدعم مشاريع إعادة إعمار البيوت المتداعية، ونجحت في ترميم أكثر من 15 بيتاً تراثياً، إلى جانب عملي بالتزامن، على دعم البيئة والعناية بالطبيعة البكر بعيداً عن التلوث». أمّا الداوود التشكيلي، فقد أنجز أعمالاً تصوّر المعاني الدفينة في النفس البشرية وتشظياتها، والتي يجد المتأمل فيها شيئاً من ذاته، أو إجابة على سؤال طالما حيره.

المحطّات البصرية
كثيراً ما كان الداوود يستقل سيارته بصحبة كاميرته، متوجهاً إلى الأمكنة النائية والأرياف البعيدة والصحارى، ويوضح «أملك مخزوناً هائلاً ‏من الصور الفوتوجرافية، التي تؤرخ لأمكنة وأشخاص وكائنات، في الأردن وخارجها، سأعمل على تصنيفها وإبرازها، لتستفيد منها الأجيال القادمة».
عن أبرز محطاته البصرية التي أحبّها، وسعى لتصويرها يقول: «كنت عاشقاً لتصوير الحمير، وقطعت مسافات للوصول إلى أماكن وجودها، حتى خارج الأردن، للحصول على لقطات خاصة بهذا الكائن المظلوم الذي تتهمه البشرية بالغباء»، مؤكداً: «أعتقد أنّ الحمار طيب وذكي، ويستحق أن نحتفي به».

نشاطات الرواق
استطاع الرواق عبر 30 عاماً أن يجذب الجمهور المهتم بالثقافة والفنون بأنواعها، وتبعاً للداوود: «هدف الرواق منذ كان فكرة، هو نشر الفن في الشارع العربي، للارتقاء به إلى العالمية، ‏وذلك من خلال الاهتمام بالتراث والموروث الحضاري، والتركيز على تأسيس ‏الفنان الشاب المبدع في مجاله، ودعمه، والإسهام في تنمية المجتمع المحلّي».
في الرواق صالة ‏عرض متميزة استضافت عدداً كبيراً من الفنانين العرب والأجانب، في ندوات شعرية، وأمسيات فنية، وعروض للأزياء التراثية، وورش فنية، وملحق فيه قسم خاص لبيع التحف والخزفيات والمشغولات التراثية والتذكارات السياحية التي تعكس روح المدينة ذات الطابع القروي الحميم، وقسم آخر لبيع الكتب الصادرة عن الرواق، وآخر الإصدارات عن دور النشر الرائدة. 

احتفاء بالإبداع
صدر عن الرواق عدد من الكتب ذات الثقل الفنّي المهم، لعدد من أبرز الأسماء العربية، مثل جورج بهجوري، فرغلي عبد الحفيظ، سناء كيالي، عماد ‏حجاج، وأمجد ناصر، كما أنتج عدداً من الأفلام الوثائقية، منها: «سيرة قرية» للمخرج معتز جانخوت، و«لص اللحظة» ‏للمخرجة راما كيالي. وفي أرشيف الرواق لقاءات ثقافية مع العديد من الأدباء والفنانين مثل: أدونيس، ‏انطوان كرباج وغيرهما الكثير. إضافة إلى العديد من الأفلام التوثيقية والصور والشهادات والمقالات الصحفية.
يؤكد الداوود: «العلاج بالفن من المجالات المهنية والأكاديمية حديثة العهد نسبياً، وهو يقوم على تطويع الأنشطة الفنية التشكيلية، وتوظيفها بأسلوب منظم ومخطط، لتحقيق أغراض تشخيصية وعلاجية تنموية نفسية، تعتمد على السماح للمواد اللاشعورية بالتعبير التلقائي من خلال الوسائط والمواد الفنية».

مشروع عائلي
بعد هذه العقود الثلاثة من عمل خلدون المتواصل في هذا الحقل الشائك، والانغماس بالثقافة بكلّ عناصرها بشكل فردي، وليس تحت مظلة حكومية، أو دعم دائم من جهة ما، يؤكد: «استقلاليتي، وبُعْدي عن اللوائح، يمنحاني الخصوصية والامتياز والتحقق والإنجاز بحريّة». يقول الداوود: «تجارب أبنائي فادي وشادي ولؤي التشكيلية المتميزة، تمتلك خصوصيتها، ليس لأنها خرجت من عباءتي ومدرستي في الفن والحياة فقط، لكنها أيضاً تتلمذت على أيدي كبار الفنانين الذين توافدوا على الرواق عبر هذه السنوات».

رؤية الغد
لم يغفل الداوود ما يجري في الراهن من انتكاسات، وانعكاسات في الوعي والعقل، وما تركته ظاهرة العنف والتطرف من جراح في نفوس البشر، وخصوصاً الأطفال الأيتام والأقل حظاً، الذين يمثلون حلم المستقبل وصوره الجميلة المتحققة في دواخلهم.
ويوضح: «إنّ الأطفال هم الباروميتر لرؤية الغد، وما يبرز من أثر اجتماعي أو ثقافي أو نفسي، نجده يظهر مثل بركان عندما يعبرون عنه في الرسم أو الغناء أو الرقص والموسيقى، فيخرجون ما في دواخلهم، وبدورنا نستطيع أن نتجنب الكثير من سلوكيات العنف والتطرف التي لا تفضي إلا إلى العدم والفناء وثقافة الموت».