حين يخطو المرء أول خطوة في السفر، مجتازاً العتبة، تاركاً خلفه البيت، متطلعاً بشوق للأماكن الجديدة، الصباحات المختلفة، الوجوه الأخرى، فماذا يخلف وراءه؟ ماذا يحمل معه؟ حين يقبض على عصا الترحال، يتوكأ عليها تارة، يراقصها فرحاً تارة أخرى، فهل يترك ضغوط العمل تتمدد في هدوء على طاولة الطعام، هل يقذف المماحكات الصغيرة المزعجة من النافذة؟ أم يحملها معه وزناً زائداً؟ تثقل ظهره، تنغص حلاوة العيش في السفر، تكدر نهر أيامه الصافية.
أكثر المحبين للحياة الطيبة يدع همومه ومشاغله فوق طاولة الطعام، معها أحاديث الثقلاء والنميمة الساخنة، يتركها منطلقاً يحدوه الأمل في اكتشاف بلاد أخرى، أو استعادة ذكريات في بلد أحبه. يستكشف الطبيعة والبشر، يتأمل رفاقه في الرحلة، ثم يسافر بعيداً في أعماق ذاته. عند تأمل السهول الخضراء أو صفحة النهر يتراكم أمامه عمره يسائله عمّا مضى، ما هو آتٍ في مقبل الأيام، عن الطفل الذي كان هو ذات يوم. في الدروب تتقافز أمامه أحلامه، مرحبة به؛ ليكمل سيره نحو الطموح، أو تسخر من خوفه وتردده، لكنها تشفق عليه فتخرج الزفرات حارة، والتنهيدات عميقة.
عمّ يبحث الإنسان في السفر؟ عن المعنى الضائع أم الحلم الأخضر الطري؟ يسقيه بالأماني حتى لا يجف.لأيّ شيء يتطلع؟ للجمال في أرض لم يألفها من قبل، لرؤية المختلف عمّا تعوّد عليه. أهي رحلة لتجديد النشاط وشحن الذات، لكسر الروتين الصلب للأيام المتشابهة. تحضر فوائد السفر الجمّة، في الانطلاق بعيداً مع رفقة طيبة، مع قراءة في كتاب الحياة لمن ملك قلباً واعياً، وذهناً يقظاً.
ما الذي نعود به معنا بعد السفر؟هدايا تذكارية نتوسل بها لاستعادة تلك الساعات المنفلتة من عمر البهجة، نعود بالصور والفيديوهات التي خلّدت تلك الدقائق. هل نسافر لنكتشف أننا مثل أبطال باولو كويلو يبحثون في سفرهم عن كنزهم المشهود، ومن أقصى مكان يعودون لنقطة البداية؛ كي يكتشفوا أن الكنز المأمول مدفون قرب باب بيتهم!
إنه السفر، قراءة أخرى للعالم عبر المكان، هي القراءة سفر ممتع عبر الزمان، كلاهما يعلّمان الانفتاح على الآخرين مع احتفاظنا بهويتنا، يعلّمان الاحترام والتسامح.