لماذا الكتابة الروائية؟
لأنها بالنسبة إليّ الحرية المطلقة المستحيلة في ضيق عالم الواقع، إذا ما استحالت الأوراق مساحة حرة لقول ما أريد، بالشكل الذي أريد.
وحدها الكتابة تمنحني فرصة أن أكون أنا، وأن أكون الآخر في الوقت ذاته، أفهمه وأتفهمه ولا أُحاكمه. فالكتابة وإن لم تمنحني فرصة فهم العالم فإنها تمنحني اقتراباً من فهمه، حينما أكون الرواي والمروي عنه، الظالم والمظلوم، الرجل والطفل والمرأة والعجوز، الغني والفقير والمحبوب والمنبوذ، العصفور والنملة والشجرة. أن أكون في مكان القاتل، أفهمه دونما سفك دماء، أو في مكان القتيل، أشعُرُه من دون أن أموت. أن أكون السجين دونما قيود تحزُّ معصمَيَّ فأفهم الحرية وأتوق إليها أكثر لي وللآخرين.
يقول ميلان كونديرا عن شخوص رواياته: «إن شخصيات رواياتي هي إمكاناتي الشخصية التي لم تتحقق». وأنا أؤمن بما يؤمن تماماً، حققت على الورق ما ليس في مستطاعي تحقيقه خارج الأوراق قط؛ صرتُ فقيراً معدماً في قرية فلبينية بسيطة أصلي في الكنيسة والمسجد والمعبد البوذي والطبيعة، وأجد الله في نفسي. صرتُ متطرفاً سُنِّياً ومتطرفاً شيعياً وافتعلت اقتتالاً فيما بيننا أفضى إلى موت الاثنين في ذاتي، وخرجتُ من معركة التعصب سالماً متحرِّراً من إرث النَّار والدَّم. صرتُ عازفاً محترفاً للعود الذي لم تمنحني أوتاره نفسها في الواقع، أغني كلماتي وألحاني للكون. صرتُ الجدَّة وصرتُ الحفيد المسكون بالسؤال، جرَّبتُ أن أفقد البصر لأستشعر البصيرة. صرتُ الأخ وأخاه، والابن وأباه، وحمامة زاجل لا تطيل الغياب، وصرت فتاة بدوية على ظهر ناقتها تقطعُ صحراء شبه الجزيرة العربية، تتبعُ الشَّمسَ إلى بلاد الحُلم ولا تصل، راضية مطمئنة لعدم وصولها لأنها أدركت الحقيقة أخيراً: أن الوصول أكثر مشقة من الرَّحيل، وأن رحلة الأمل حياة، والوصول موت.
في الكتابة وحسب، أحييتُ أمواتاً أشتاقهم. زرعتُ حديقة في بيت قديم ماتت أشجارها بموت جدَّتي.. وأحييت جدَّتي في أشجارها القديمة، فاستعدتُ طفولتي الهاربة من عالم الكبار الذي لا يشبهني. في الكتابة أنجبتُ ولداً يشبهني، شهدتُ مولده واخترتُ بداياته وتركت له أمر النهاية.
في الكتابة حلمتُ أن أحكي وطني بكل وجوهه المتناقضة، ذاكرة زرقاء لوطن أصفر، سواحل وصحراء وأشجار نخيل عطشى، وبيوت شيَّدتها الشَّمس من الطين، سُفُن خشبية تتسلَّق جبال الموج إلى الهند وأفريقيا، وقوافل جِمال تجوب الصَّحراء أبداً، وأسواق قديمة لها روائح زفر الأسماك والتوابل والعطور العربية والبخور. أحلمُ بأن تكون لي «كويت» تخصُّني، مثل سودان الطيب صالح، وقاهرة نجيب محفوظ، وهند طاغور، وداغستان رسول حمزاتوف، ويابان كاواباتا، وكولومبيا غارسيا ماركيز، وباريس فيكتور هوغو. أحفظ بلادي من النسيان وهي ترتدي كل يومٍ ثوباً جديداً من «الكونكريت» الصامت البارد.
في الكتابة أحارب النسيان والموت، لأني أخاف أن أَنسى أو أُنسى، فالكتابة تمنحني فرصة مُخاطبة الأحياء بعد موتي، يتعرفون من خلالي إلى زمن بعيد.
في الكتابة ظننتُ أني أصلح العالم، فاكتشفت العالم في داخلي، فأمضيتُ الوقت أكتبُ لإصلاح كسور في نفسي خلَّفها الماضي البعيد.