للمقهى حضور قوي في الوعي الجمعي البغدادي، إذ يعد شاهداً على الأحداث التي مرت بها بغداد، ومركزاً للحوارات الأدبية.
يطلق على المقهى في بغداد اسم «هوة»، ويسمى صاحب المقهى «أبو الهوة»، أما أجرُ الجلوس في المقهى والتلذذ بما يقدمه للزائر فيسمى «هاوية»، وإذا ما أراد أحدهم دفع حساب شخص آخر يصيح «وير» وهي لفظة تركية تعني «أعطِ».
لقد اشتهرت مقاهي بغداد بالسجالات الشعرية، ففي شارع الرشيد مثلاً كان الشاعر جميل صدقي الزهاوي متربعاً على عرش مقهى «أمين» الذي سمي باسمه لاحقاً، يقابله الجواهري الشاعر الشاب آنذاك ويتساجلان القصائد، وفي الجانب الآخر كان الشاعر معروف الرصافي وجوق الشعراء قد اتخذوا من مقهى «عارف آغا» مقراً لأمسياتهم، وغير بعيد عن هذين المقهيين يقع مقهى أم كلثوم لصاحبه عبد المعين الموصلي، الذي حوّل مقهاه إلى مزار لعشاق كوكب الشرق، فبالنسبة إلى رواده لا تحلو طقوس الشاي سوى بأغانٍ يصدرها جهاز الفونوجراف مردداً روائع خالدة كـ«سيرة الحب»، و«الأطلال»، و«فكروني»، ويقال إن الإذاعة المصرية كانت تلجأ أحياناً إلى السيد الموصلي للحصول على الأسطوانات النادرة من أرشيفه.
كانت المقاهي البغدادية تزخر بأمسيات المقام العراقي فأصبحت قبلة لعشاق النغم، لعل من أشهر المقاهي التي عرفت الأمسيات الغنائية هو مقهى المميز الذي غنى فيه أساتذة المقام العراقي كأحمد زيدان، ونجم الشيخلي، وجميل الأعظمي وغيرهم من الفنانين.
لقد وشت الأغاني العراقية عن قصص كثيرة كان مسرحها المقهى، أذكر منها على سبيل المثال قصة سلمان عزاوي، وهو شابّ كان يعمل في أحد مقاهي بغداد، فأحبه رواد المقهى لدماثة أخلاقه وطيب معشره، مما جعلهم يسمون المقهى جزافاً باسمه، فأصبح المكان مريحاً لعشاق الشاي المخدر والمهيل، لكن بعد فترة وجيزة تخاصم سلمان عزاوي مع صاحب المقهى، فترك العمل وعاد إلى أهله، ليتحول المكان بعد ذلك إلى مرتع للأشباح بعد أن هجره رواده، فخلد الفنان الراحل يوسف عمر هذه القصة من خلال أغنيته الشهيرة «يا كهوتك عزاوي بيهه المدلل زعلان»، وفي الختام أدعو القارئ لسماع هذه الأغنية والاستمتاع بـ«استكان شاي من راس القوري» على الطريقة البغدادية الأصيلة.