يصاب الفكر بلوثات لها مفعول سلبي عميق، خاصة حين تمسّ مفكراً كبيراً ذا حس نقدي مرهف مثل بومان، الذي قدم للفكر النقدي أعمالاً مهمة تقود مسارات التفكر الواعي والناقد، ولكن قراءة لكتابه (الأزمنة السائلة) Liquid Times ستصيبك بتلوث ذهني، يشبه حالنا مع تلوث الهواء حين تستنشق هواء فقد نقاءه، وصار يضخ في جوفك جرعات من لوثة فكرية.
وفي كتاب بومان هذا غلب الخوف على رؤاه كلها عبر فصول الكتاب، وكأنه لا يرى من حال الثقافة الراهنة، وحال زمن ثقافة الصورة إلا ما تضخه من رعب ينتقل من الشاشات إلى العقول ومن البصر إلى البصيرة، وفي ختام فصوله راح يراجع مفهوم السعادة، لينفيه حتى عند من يرون أنفسهم سعداء، أو من يصنفهم الآخرون بطبقة السعداء، وراح يركز على ما تنطوي عليه حياتهم من شقاء، وكأن هذا سمة عصرية حصرياً على هذا الزمن، مع أن الناتج الثقافي في كل الأزمنة يكشف عن معنى شقي عميق لا يفارق الخطاب الإبداعي والفلسفي، وهو ما تؤكده سير المشاهير في كل عصر وفي كل جيل.
والخلاصة أن قراءة كتاب كهذا يورث قارئه وقارئته شعوراً مفلسفاً عن شقاء العصر.
المشكل في تعميق هذا التصور، هو أنه يخدم واحداً من أخطر معاني الرأسمالية الثقافية، بما أنه يدفع بالناس إلى تقبل فكرة الشقاء أولاً، ثم الاندفاع للبحث عن السعادة إما بعيادات الطب النفسي أو في كتب تطوير الذات، وهذه الأخيرة صارت سوقاً رائجة تلجأ إليها علية المشاهير والنجوم بمثل ما يلجأ إليها عموم البشر. والنفس البشرية جاهزة لتسليم ذاتها للخوف، ولذا يتمكن منها كل حدث تخويفي سواء في صور نشرات الأخبار أو نظريات تعمق من سلبيات الوسائل الحديثة للثقافة والتواصل. ولعل كتاب بومان هذا قدم لنا صورة من بومان القانط والرافض للمتغيرات الحديثة، وكأنها تمثل التلوث البيئي للذهن، كما للأرض والبحار.