استسهلت في السنوات الأخيرة المهنة الإعلامية بمجالاتها وأنواعها كافة، وأصبح من السهولة جداً الالتحاق بها وممارستها، مما أدى إلى أن تكون المخرجات ركيكة للغاية، لدرجة أنه نتيجة لتسيد السيئ للمشهد الإعلامي بات أنموذجاً جيداً وناجحاً، وفي ظل انتشار مؤسسات الإعلام الأهلية (الخاصة)، فُتحت الأبواب على مصراعيها للصالح والطالح، للسيئ والجيد، بالانضمام للقنوات المرئية والمسموعة، وأصبحنا نسمع المحتوى المعرفي الضعيف وسوء المستوى في إدارة البرامج، مما دعا إلى أن تتحول الشاشة والمذياع إلى ساحة للاستعراض والاشتباك اللفظي بعنف على مرأى ومسمع من الجمهور، وهو ما يفضي إلى التأثير في سلوك المتابعين والناشئة والصغار، لاسيما أن هذه الشرائح المجتمعية هي المستهدفة بالرعاية والتوجيه والإرشاد عبر الوسائل الإعلامية، كونها تصنف من أدوات البناء والتنمية والنهضة أسوة بالجوانب الأخرى في الحياة في التاريخ الحديث.
بالنظر لتلك الفوارق التي نجم عنها الاستسهال في التعامل مع المهن الإعلامية، نكتشف البون الشاسع بين ما كانت عليه قديماً وحديثاً، إذ يعرف الجميع أن المعد والمقدم وفني الصوت (مهندس التسجيل) والمخرج، يخضعون لتأهيل علمي كافٍ، بعد ذلك تأتي مرحلة الصقل بالتدريب والممارسة ومرافقة ذوي الخبرة شيئاً فشيئاً، حتى يتم إسناد أول مهمة رسمية له وسط متابعة وتقييم من المسؤولين في المهن كافة، وفي هذه المرحلة يبرز الشغوف والموهوب والمقتدر ذهنياً، بعد تأهيله ليتقدم الصفوف ويمضي في مشواره المهني متنقلاً بين العديد من المهن، التي يستطيع أن يقوم بها باقتدار وينمو بشكل لافت للنظر، حتى يتبوأ أعلى المراتب في مجاله.
على سبيل المثال، يمكن للمذيع  أن يصل إلى مرتبة وزير ووكيل وزارة وهو يمارس العمل، وكذلك المخرج والمعد والفنان، ومن الشواهد البارزة على ذلك في الحياة الفنية والإعلامية في المملكة العربية السعودية، الفنان القدير جميل محمود، الذي تقلد مناصب عدة في قطاعات الأمن العام المختلفة، مثل: المرور والشرطة والدفاع المدني، وعلى الرغم من جسامة هذه المهن وصعوبتها، لم يتخلَّ جميل محمود عن فنه وموهبته واستمر يعمل بإخلاص منقطع النظير في الوظائف التي تقلدها وفاءً وعرفاناً وولاءً من أجل ترقية وطنه، وفي الوقت نفسه لم ينقطع عن الإسهام مع زملائه في إرساء دعائم النهضة الفنية والثقافية في المملكة العربية السعودية، بل أنه انضم لمن سبقه في نشر الثقافة الفنية السعودية، والتعريف بها خارج الحدود في وقت مبكر للغاية، إيماناً منه بخدمة وطنه والتفاني من أجل ذلك الأمر، ومع مرور الأيام اقتحم المجال الإعلامي وقدم واحداً من أروع البرامج الفنية السعودية التي ظهرت على شاشة التلفزيون، واستمتع بها المشاهدون وهو برنامج (وتر وسمر) الذي كان يحتفي بالمعرفة الفنية والتجارب الفنية والنجوم وضيوف البلاد، كما أسس صالوناً فنياً بات ملء السمع والبصر، وهو ما يعرف بأحدية جميل محمود، كل ذلك وسط قناعة منه بدور الإعلام في دفع عجلة التنمية والنهضة والتطور في المملكة العربية السعودية.
أعود للمربع الأول قائلاً إن الإعلام اليوم بات واحداً من أهم ملامح الحياة في العصر الحديث، بل إنه سلاح مؤثر وخطير للغاية إذا استحسن استثماره وفق المعطيات المتاحة، وعطفاً على ما تقدم فإن الناتج الإعلامي على الصعيد البشري من حيث الكفاءة والملاءة المهنية كل في مجاله، قبل الطفرة الراهنة، كان أفضل بكثير من حيث المحتوى والالتزام بالاشتراطات المطلوبة في كل من يمارسه، وكان التنافس الهادف البناء والتفرد في الإنجاز وفرا كثيراً من الأساليب الرائعة في الإعلام التربوي النهضوي الناجح.