100 سنة مرت على ذلك اللقاء الغريب الذي انتهى إلى زواج في 1917، وابنين، أمينة ومؤنس. مع أن الأمر في البداية بدا صعباً كلياً. عربي وغربية؟ كفيف ومبصرة؟ كل شيء كان يظهر أن التجربة لا تملك أي فرصة للنجاح. ننسى أحياناً أن العمق البشري يقهر ثقافة العنصرية واحتقار الغير في اختلافه عنا. كانت سوزان بريستو أكبر من هذا كله. بل تجاوزت المواضعات الأوروبية باتجاه اختبار إنسانيتها الحية. ووقفت في وجه عائلتها وتحدتها من أجل خيارها. لم يكن الباحث المستشرق جاك بيرك مخطئاً، عندما طلب منها أن تكتب سيرتها عن هذا الحب الصعب والمستحيل، وتتحدث بحرية.
نحن في سنة 1915. التقى طه حسين سوزان لأول مرة، في مدينة مونبيلييه. جلسا طويلاً يتأملان شيئاً مبهماً، إذ لا لغة تجمعهما إلا صوت القلب العميق. ثم بدأت اللقاءات تتوالى بينهما بين الحديقة ومكتبة الجامعة. وكانت سوزان تقرأ له من الثقافة الفرنسية ما لم يكن قادراً على الاطلاع عليه بسبب كفاف بصره. وعلى مدى سنتين تعمقت اللقاءات وأصبحت الحميميات تخترقها، والثقة بينهما تكبر، وكانت سوزان تشعر بأن إنسانيتها كبرت واتسعت بمكوثها مع طه حسين. تعود على صوتها الذي أصبح يصحبه وهي تقرأ له، لكنه لم يسرّ لها بما يملأ قلبه مخافة أن ترفضه. من خلالها انفتح على العالم الغربي تحديداً، تعلّم الفرنسية وقرأ بعيني سوزان الكثير من كلاسيكياتها، وتذوق الموسيقى الغربية. بعد أن نال الدكتوراه، افترقا بحزن، لكن بمجرد وصوله إلى مصر شعر بوحشة المكان، وعاد يبحث عن صوت سكنه وأصبح جزءاً من كيانه. كتب لها أول رسالة كانت أولى كلماتها: «اغفري لي، لا بدّ من أن أقول لك ذلك، إني أحبك... وأعرف جيداً أنه مستحيل». وفي أخرى قال لها: «بدونك أشعر أني أعمى حقاً». بلغ عدد ما كتبه لها 90 رسالة.
لم يكن خياره الزواج من غربية أمراً سهلاً. لنا فيما سجله عن الشيخ الأزهري الذي جاءه ليقول له: لو كنت مسؤولاً في مصر لقمت بتشريع قانون يحرم على أي مصري يتزوج بفرنسية.. ثم طلب منه تطليق سوزان. فأجابه: «تزوجتها لأنني أحببتها، وبادلتني المشاعر نفسها، وصنعت مني طه حسين». وكان هذا أجمل جواب على بؤس مجتمعي جعل من التخلف مقياسه للمحافظة على الأخلاق.