رغم أن لا وسيلة تعبير لديه مثل الكتابة، فإنه ما خاف شيئاً مثل الكلمة!
يرى البعضُ في الكلمة مجرد قول، متناسياً أن القول في حد ذاته فعل، وهذا الفعل المتجسد في كلمةٍ لا يمكن التراجع عنه فور مغادرة الكلمة الشفتين أو عند إطلاقها على الورق أو أثير الفضاء الإلكتروني. فكم من كلمة ارتقت بصاحبها أعلى المراتب وكم من كلمة أسقطت قائلها في درك أسفل حتى صارت نهايته.. بكلمة.
لو أن واحدنا أصابَ من الوعي جانباً لاحتفظ بكلماته طويلاً، يزنها ويقيِّمها ويقوِّمها، قبل أن يطلقها خارج رأسه لتستقر على طاولة تشريح الآخرين. يكفي واحدنا التفات سريع حوله في كلمات الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي ليدرك شأن الكلمة، مهما بلغ علواً أو تفاهة، بالتأثير في قائلها والآخرين.
يتحدث صاحبنا الكاتب عن رهاب الكلمة الذي لا يعانيه، إنما هو يبارك هذا الرهاب الذي لا يجد فيه علة مثل رهاب الازدحام والأماكن المرتفعة أو الضيقة، لأن الخوف من الكلمة منحه احتراماً لذاته وللآخرين قبل أن يقول أو يكتب. فالناس يتذكرونك بكلمة، وينسونك بكلمة، ويحترمونك أو يزدرونك بكلمة. وبينما يستخف البعض بفعل الكلمة متكئاً على فضيلة الاعتذار؛ يقول صاحبنا لا شك في أن الاعتذار أمر محمود، ولكن الاعتذار وإن منحك الغفران فإنه لا يمنح الآخرين نسيان الأذى.
في فيلم «الشَّك» رأت إحدى النساء في الحلم كفاً كبيرةً تشير إلى الأسفل، وكانت هذه المرأة قد اعتادت التقوّل على جارها زوراً. أصاب المرأة شعور كبير بالذنب، فذهبت إلى قس الأبرشية القديم للاعتراف. وطلب منها القس العودة للمنزل، لتأخذ وسادة تمزِّقها في سطح دارها. عادت لقس الأبرشية القديم بعد إنجازها ما طلب منها. سألها الرجل: هل مزّقت الوسادة؟ أجل يا أبتاه، أجابته، ثم سألها: وماذا كانت النتيجة؟ فقالت: خرج الريش وانتشر في كل مكان. فقال لها: أريدك أن تعودي وتجمعي كل ريشة طارت مع الريح. فقالت: لا يمكن ذلك! فأنا لا أدري أين ذهب الريش، لقد حملته الرياح إلى كل مكان. فقال القس: وهكذا هي حال الإشاعات!
بصرف النظر عن كون الكلمة في الفيلم إشاعة مغرضة أو أي كلمة أخرى، طيبة أو سيئة، فالكلمات، كل الكلمات، شأنها شأن ريش الوسادة المتطاير في الهواء، فهل تفكَّرت في ريش وسادتك قبل أن تحرره؟ أليس في الأمر مدعاة رهابٍ وتفكير طويل قبل قول كلمة أو كتابتها؟ قبل أن تفكر في إجابة بديهية عد لصفحاتك في مواقع التواصل الاجتماعي وتحقَّق من الوسوم الأكثر تداولاً وانظر إلى فعل الكلمة في تدمير حياة الأفراد، وتأليب شعوب على شعوب، وإهدار كرامة الآخرين، وبث الفوضى والقلق والاكتئاب والكراهية.
على واحدنا اليوم ترويض نفسه إزاء الكلمة قولاً وإنصاتاً وكتابة وقراءة، فإن كل ما يفسد حياتنا اليوم مُبتدؤه.. كلمة!