كنتُ متدثراً بشكل لا يُفسد للبرد قضية، أرتدي معطف تشرشل، وتحته قميص ماركة التمساح، وتحته طبقة من الشحم، لذلك استسلمت للجرسون حين قال إنه لا توجد أماكن داخل المقهى وقادني إلى جلسة خارجية، فرغم أنني لمحت طاولات شاغرة في الداخل، إلا أنني فكّرت أنه لا مصلحة له ليجلسني في الخارج.
كان المقهى عبارة عن خيمة منصوبة في حديقة فندق فخم في عاصمة عربية، وكانت البرودة شديدة في ذلك المساء إلى درجة أنها أخذت مجراها إلى عظامي قبل أن أنتهي من قراءة عنوان الرواية التي أخذتها معي، فقلت له وهو يسكب لي قهوتي: أنا أتجمّد! فاعتذر مجدداً وقال إنه سيأخذني إلى الداخل فور توافر طاولة.
مرّ شوط من العذاب وأنا أرصد مدخل الخيمة أنتظر خروج أي زبون، وفجأة، كما في الروايات، انشغل الجرسون بهاتفه وأسرعت إلى الخيمة ووقفت ثانية واحدة وأنا أفرك يدي، وإذا بجرسون آخر يرحب بي ويقودني إلى أقرب طاولة من المدفأة.
بعد لحظات جاء الأول وقال إنه كان يتمنى لو بقي يخدمني في الباحة الخارجية، لأنه مكلّف بخدمة الزبائن هناك فقط، فوضعت بعض النقود في كفّ يده كضريبة للدفء الذي حصلت عليه أخيراً.
كان الجرسون ينظر إليّ باعتباري بقشيشاً لا باعتباري إنساناً يتجمّد، وذكّرني هذا بجورج أورويل الذي كتب يقول عن فترة عمله في المطاعم الراقية إنها تعامل الوجبة التي يطلبها الزبون كطلب وليس كأكل، فتكون الأولوية لتجهيز وجبة متطابقة تماماً لطلبه، ولا يهمّ بعد ذلك إن كان الأكل فاسداً، أم تم إعداده في بيئة غير نظيفة.
وهكذا ينظر الطبيب إلى الذي يتلوّى أمامه، فهو حالة مغطاة بالتأمين، ليتمكن من سداد قيمة الأجهزة الطبية التي يجري بها العمليات. وهكذا ينظر المحامي إلى المرتبك على المقعد، فهو كومة أتعاب، ليتمكن من سداد إيجار مكتبه. وهكذا ينظر المقاول إلى ربّ الأسرة الذي لديه حلم بمنزل العمر، فهو مشروع، لأن المقاول أيضاً لديه بيت وأسرة وعيال في المدارس.
وكلنا في نهاية اليوم، بطريقة أو بأخرى، نحقق أحلامنا على حساب بعضنا بعضاً.