تتواتر قصة عن خبير بريطاني جاء لمصر في بداية الخمسينات، ليقدم أفكاراً لتطوير مصانع حلوان، فقال لهم: لكي تطوروا مصانعكم توقفوا عن ضرب العمال. وستجد هذه المقولة قبولاً كبيراً لدينا اليوم، ولكن لو عدنا لتاريخ (الضرب) في بيئاته الثقافية الأولى لاكتشفنا معنى الضرب في سياقه الثقافي، وكل من هو من جيلي (الخمسينات وما حولها) سيعرف يقيناً أن الضرب كان معنى تربوياً متفقاً عليه بين الضارب والمضروب، ولم يكن كما نراه اليوم، من حيث اعتباره تعنيفاً يصل إلى حد التجريم.
في عهودنا الماضية كان الكل يضرب الكل، والضرب يقع في المنزل والمدرسة والشارع، وكان ممارسة اجتماعية شاملة، ولم يكن المضروب ضحية لمعاملة تخصه وتقلل من قيمته الذاتية، بل إن المضروب نفسه يضرب من يقوى على من هم تحت وصايته، كما أن أهل الطفل المضروب يتقبلون ذلك بوصفه عملاً مشكوراً، يجعل طفلهم يتعلم أو يحترم سلوكيات المجتمع أو يتوب عن مخالفة ما تساعده على النضج والبلوغ العقلي والمسؤولية. وكلنا نتذكر المعلم الذي يضربنا كيف نفهم الدرس، هذا في المدرسة، ثم نتعرض للضرب في البيت لكي نذاكر الدرس، وإذا خرجنا للشارع يضربنا وجهاء الحي حين نخالف آداب سلوك الشارع، هذه سردية لم تكن مستنكرة عند أي أحد.
ومن صفة العادات والتقاليد أنها عمل جمعي متواتر ومتوارث، والشذوذ فيها هو في استنكارها والخروج عليها، ولذا كان الضرب لعمال حلوان هو نظاماً وتنظيماً من أجل سير العمل بانضباط وإنتاجية، وهم يعون ذلك، ولا يرون الضرب إهانة ولا تعدياً، والمجتمع كله يعي ذلك، ولذا، لن ترى في تلك الأزمنة قضايا في المحاكم عن ممارسة الضرب في المنازل والمدارس والمصانع.
ولكن حدث تحول في المفاهيم التربوية والحقوقية، اختلف فيه معنى الضرب ليكون اعتداء جسدياً وتعنيفاً معنوياً تحاسب عليه القوانين، وما كان مباحاً بل ومحبباً في سياقات سابقة أصبح مستهجناً على مستوى الثقافة وصار جنحة حقوقية يتولاها القانون. وكل فرد يتعرض للضرب صار في متصوره أن هذا تحدٍّ مباشر لمعنوياته، ويشعر بأنه ضحية مفردة وتحت التقصد، على عكس أسلافه الذين لم يكونوا يشعرون بشعور سلبي وفردي مع الضرب، ويكفي أنهم يمارسونه على غيرهم بتلقائية اجتماعية بوصفه تأديباً ومردوده نفعي.
هنا تتغير مفاهيم التصرفات والمعاني تبعاً لحال سياقها التي هي فيه، والسياق الثقافي العام هو المرجعية التي تحدد معاني التصرفات، وقد مر الضرب بتحول حاسم من كونه تربية إلى كونه جرماً.