تحل علينا فـي المملكة العربية السعودية هـذه الأيام (11 أغسطس)، ذكرى رحيل الفنان طلال مداح الـ19، وسط متغيرات لافتة للنظر عززت من مكانته وجدارته بالتربع متوهجاً في قلوب السعوديين كافة وجمهوره العربي من الخليج إلى المحيط. والأمر الذي يستحق التوقف عنده بقوة، هو أن شعبية الفنان طلال مداح خلال 19 عاماً، وهي التي غاب فيها عن حياتنا، ازدادت تألقاً بصورة غير متوقعة وظل على مدار هذه السنوات حاضراً بقوة في الفعاليات والبرامج ومواقع التواصل الاجتماعي وكأنه لم يغب على الإطلاق.
أقول إن ذكرى طلال مداح تحل علينا وسط متغيرات إيجابية للغاية، انعكست عليه بالدرجة الأولى تأكيداً لريادته الفنية، وتكريساً لتخليده في ذاكرة الأمة العربية والتاريخ، ومن هذه المتغيرات قيام وزارة الثقافة السعودية بإطلاق اسم طلال مداح على أحد أبرز المسارح الغنائية في البلاد، وتنظيم حفل تكريم رسمي له من قبل هيئة الترفيه وفاءً وعرفاناً وتقديراً وإجلالاً، لما قدمه لوطنه من خدمات أفنى عمره من أجله، واعتزازاً بدوره في ترقية الأغنية السعودية وتطويرها ونشرها إقليمياً وعربياً.
من المتوقع أن يتحول حفل تكريم الفنان طلال مداح مؤسس الأغنية السعودية الحديثة، إلى كرنفال غنائي يقدم فيه عدد من نجوم الغناء العربي، الذين يتسابقون للمشاركة في هذا المحفل البارز، نماذج من أغاني الراحل، تمثل محطات في عطائه الغنائي وسط حفاوة كبيرة من الضيوف المدعوين والمشاركين والجمهور الكريم. ومن هنا فإن ذكرى رحيل الفنان طلال مداح الـ19 هذا العام لن تكون عادية البتة، بل ستكون محطة ترسيخ لريادة زمنية جديدة تكرس فيها عبقرية وألمعية وخلود هذا الفنان في قلوب وذاكرة الشعب السعودي، الذي تعلق به نظير ما قدمه من فن راقٍ متميز له دلالات كبيرة ثقافياً واجتماعياً، أسهم على مدار سنوات مشواره الـ45 عاماً في إنتاج رسائل وتحايا ووجهات نظر، تصور الحالة الذهنية والفكرية المعبرة بجلاء منقطع النظير، ناهيك عن قيامه برسم آمال المستقبل في أغانيه وأحلام وطموحات الشعب السعودي، معبراً عن مقدراته وأسلوب تفكيره وطريقة حياته ومعطياته التي يتمتع بها.
من هنا فإن الإجماع الذي حازه طلال مداح محلياً وإقليمياً وعربياً لم يأتِ من فراغ، بدليل تفرد فنه ورقيه وانتشاره وذيوعه بفضل كفاءته الفنية المطلقة وقدرته المؤثرة كملحن، وجمالياته التي لا تعد ولا تحصى التي يطرز بها أعماله وإطلالاته الفاخرة، عطفاً على الحضور الطاغي الذي يملكه ومهارته في التصوير والتعبير لموضوعاته التي ينتجها غناءً وموسيقى، فضلاً عن سمة الصدق التي يتسم بها فنياً وإنسانياً، وهي ما جعلته شخصية محببة ومفضلة لدى المجتمع السعودي، كونه لم يساوم على فنه بل نزهه عن كل ما يدنسه، واعتنق بإيمان تلك القيم والمثل التي يحرض عليها الفن لترقية الوعي والذوق والسلوك لدى الفرد داخل المجتمع، في بيئة كان يتواجد فيها وهو ما جعله نبراساً لكثير من الفنانين، سواء الذين أخذ بأيديهم ودعمهم وشجعهم، أم أولئك الذين يتلمسون الطريق بغية الصعود إلى سلم الفن الصحيح، بل إن إيمانه بقيم الفن جعله يضحي كثيراً في سبيل التمسك بها، وهو ما جعله رمزاً للفن المتحضر الذي ينضوي على الخلق والمروءة والشيم والمبادئ والمفاهيم من أجل حياة إيجابية ومجتمع منسجم تبدو عليه آثار المدنية.
إن ذكرى رحيل طلال مداح الـ19 التي سنعيشها هذا الشهر، تؤكد لنا مجدداً أن هذا الفنان جزء لا يتجزأ من هويتنا الوطنية وملمح حضاري مشرف يحق لنا أن نتباهى به بين الأمم والشعوب.