الكتابة هي إبداع بالكلمات، طاقة الروح النشطة التي تناجي الأفكار بجناحي الخيال والعواطف. تبقى الفكرة مرفرفة في داخل المبدع، يحسها خلف غلالة شفافة، تتراءى له، حتى تنبت على سطور الصفحة. حين تولد لا أوقات تنتظم فيها، لا قوانين تحكمها، هي بين كاتب ليلي اعتاد السهر في سماء أفكاره وجنة عواطفه. ينسج كلماته، لا أحد بعده يستطيع تقديم كلمة أو تأخيرها من دون أن يختل بناؤه المحكم، وكاتب نهاري يستمد من الشمس ضياء ووهجاً، يرتوي بالقراءة ويسطر أنسه بالكتابة.
حين يضع الكاتب رأسه على الوسادة، بعد يوم طويل مرهق، يحلو للأفكار أن تبرق في ذهنه، أن تتراقص بين عينيه، يقاومها قليلاً، أملاً في النوم، لكن بنات الفكر يولدن في جمل كاملة بهية، مغرية بالتدوين؛ لأنها تبدو عزيزة المنال، قابلة للأفول بعد لحظات، يحتار في تسجيلها بين الكتابة على الورق أو الطباعة، لحظتها يختار أقربهما منه، ليمسك بالغالي النفيس قبل أن يفرّ من بين أصابعه.
دفقة الكتابة كسحابة أمطرت فجأة بغزارة، رغم أنها بدت للناظر عابرة، دفقة تدفع الكاتب ليخط بسرعة واندفاع. مطر ملأ الأودية والأنهار، ثم فاض منها كأنه طوفان لا يرى ما أمامه. بعد دقائق يكلّ القلم، تتعب اليد في حيرة من هذا التدفق، حتى الخطّ تغير. دقائق قد تمتد لساعات، رغم يقين الكاتب بأنه عندما يصحو بعد ساعات سيطالع ما كتب بعين فاحصة ناقدة، وأن قلمه سيمتد بالشطب أو الإضافة، رغم ذلك كلّه يعيش هذه الدقائق بإخلاص المحب المتيم.
يثمر حب الكلمة تدفقاً إبداعياً، قد تختلف طريقة تدفقه أو طقوسها من كاتب إلى آخر، لكنها ليست إلا ثمرة التفكير الدائم، الاستغراق في الموضوع، الذي يشغل الذهن، ليقضي المبدع سحابة يومه متأملاً، بل إن بعضهم يبدع في منامه، ليصحو مردداً عبارة أو بيتاً شعرياً، يبني عليه القصيدة، إحداهن استلهمت موضوع لوحتها وتفاصيلها من حلمها.