«نجوا من الموت وما نجوا من الحياة».
ربما بتلك العبارة العميقة التي قالتها إحدى شخصيات رواية «الغرق، حكايات القهر والوَنَس»، للروائي السوداني حمُّور زيادة، يمكنني أن أختصر حضور النِّساء في روايته. فايِت نِدُّو، شاهيناز أو عبير، فاطمة أم الصبية، الصبية سعاد، دهب، سكينة بنت البدري، نور الشام، عِزّ القوم، الجدَّة الأسطورية العافية والرضية وأخريات. البعض منهنَّ وإن غادر للموت، إلا أنه عاش ميتاً في الحياة، ضحية لضحية تقاليد أكثر صرامة من ناموس إلهي. وفي الآخر، ما من شخصية في الرواية نجَت من الحياة.
اللافت في الشخصيات النسائية في الرواية، على كثرتها، أن واحدتها لا تشبه الأخرى إلا في كونها أنثى، شخصيات رغم غرابة أسماء بعضها كما الأماكن في الرواية تبدو مألوفة، تتعلق بها كما لو أنك تعرفها. تقع في غرام إحداها في صفحة، لتنفر منها في صفحةٍ تليها، ثم تعاود محبَّتها. شخصيات لا وجه واحداً لها، حقيقة نابضة بالحياة تقبلها بكل تناقضاتها، يدفعك توالي السرد إلى فهمها وتفهُّم تصرفاتها عوضاً عن محاكمتها في بيئة سحرية على ضفاف النيل تقدِّس القبيلة والشرف وتمارس العبودية وتغصُّ بأبناء السِّفاح.
انتبهتُ للعناية في رسم الشخصيات النسائية لدى حمُّور لأني، في الشهور الماضية، كنت قد فرغت من كتابة رواية قصيرة بطلتها فتاة، لم يكن الاقتراب من نفسية الأنثى بالأمر السهل، رغم أنها شخصية واحدة وحسب، وهذا ما جعلني أتوقف كثيراً عند قدرة زيادة، في منح نسائه ذلك الثراء والتفرد في صوت واحدتهنَّ عن الأخرى، وبتدرج مستوى المظلومية لدى شخوصه؛ امرأة ضحية امرأة، ضحية رجل، ضحية أعراف موروثة أو ضحية حظ! نساء في سن المراهقة، ناضجات، عجائز، سيدات عائلات كبيرة وإماء.
في كل صفحة أتلقف فيها اسم امرأة جديدة كنت أسألني، إلى أين يأخذني القَص؟ ولكن نساء حمُّور زيادة كنَّ هنَّ القصة، كل القصة، من مبتدئها غرقاً في النيل، إلى نهايتها غرقاً في النهر ذاته.
«الغرق، حكايات القهر والوَنَس»، رواية تعج بالحياة، مُرَّة في تفاصيلها، وفي مجملها حلوة «زي حلاوة القرطاس».