لدى الإنجليز نكتة يرددونها سخرية من الأميركيين وأنهم بلا هوية، وذلك أن حفلاً اجتماعياً عقد في «جامعة أوكسفورد» في السبعينات، وطلبوا من الطلبة أن يحضروا بملابسهم الفولكلورية، ولبس كل طالب وطالبة ملابس بلدهم التقليدية، سوى الطلبة الأميركيين جاؤوا بألبسة عادية، باستثناء بنت واحدة جاءت متمنطقة بالعلم الأميركي بنجومه الخمسين وزيادة، ولفتت نظر الجميع لتخلصها الذكي، وتظل النكتة تنعي على أميركا خلوها من معنى الهوية.
ولكن قراءة الحادثة ستشير رمزياً إلى معنى واقعي للهوية، وهو معنى (الإنجاز) فأميركا كلها مستعارة، شعوبها مستعارة من قارات مختلفة، ولغتها الرسمية هي لغة المستعمر الإنجليزي، وعقولها كلها مستوردة، لكنها تجمعت تحت اثنتين وخمسين نجمة، وصنعت من النجوم هوية ترمز للإنجاز، وصارت أميركا تنتمي لمنجزها، وتتأسس على المنجز نفسه، بمثل ما تنتمي للمستقبل، ولا تتكئ على الماضي أو منجز غيرها، وهذا نموذج عصري فريد يجعل الهوية هي المنجز.
(منجزك هويتك)، وهذا قانون يصدق على الأفراد كما يصدق على الأمم، فالفتوحات مثلاً تاريخ عظيم صنع المنجز الكبير في تاريخنا القديم، وكل دولة تمكنت من عمارة أكبر قدر من الكون، صارت عظيمة بمقدار ما عمرت من الأرض، تماماً كما أن الجاحظ وشكسبير مثلاً ترقيا من الخمول إلى الواجهة بفعل منتجهما. وكانت المرأة خارج التاريخ، ولكن مدام كوري فازت بـ«نوبل» مرتين، لأنها أنجزت ما لم ينجزه الرجال. وهذا يحسم سؤال الهوية ويحررها من كونها مجرد مصطلح استقطابي وربما افتراضي حالم، ليكون معنى عملياً وبرهانياً.