أحبّ ما تُخفيه المُدن أو المناطق العريقة حول العالم، وأحبّ أن أقرأ شوارعها كسطور رواية قديمة، ما زالت تُكتب حتى اليوم. كلّما قمت برحلة لمدينة عتيقة أو قرية ريفية في مكان ما، يُسارع من حولي إلى سؤالي لماذا اخترت هذا المكان؟ وتتبعها على الفور عبارة أن السفر للراحة وهذه الأماكن تحتاج إلى جهد ووقت كبيرين لاستكشافها. للمدن والأماكن عندي سحر يشبه ذلك الذي يحيط بالشخصيات الفريدة، فالمدينة كالإنسان كلّما أطلت الحديث معه زادت معرفتك بجوانبه، وكذلك المدينة مع كلّ زيارة تتوطّد علاقتي بها ولكن يبقى لها وجهٌ خفيٌّ لا تُظهره إلّا لمن يُتقن لغتها المكانية ولمن يُمعن النظر.
رمستي هذه كتبتها من بومباي - وهنا لا أقصد المدينة بعينها، ولكن أي مكان نزوره - حيث قضيت إجازة نهاية الأسبوع مؤخراً مع صديقات لي، وعادة ما ترافقني ابنتي مريم في سفري وتوثّق الرحلات على مدونتها الخاصة بالأماكن التي تستحقّ الزيارة حول العالم، وعلى قناتها «سناب شات»، وكما أعرض أنا جانباً منها في منصاتي. التعليق الذي جعلني أكتب رمستي هذه هو عبارة مثل: «هذه ليست بومباي التي نعرفها!»، وغيرها من الجمل التي تحمل الانطباع ذاته بعد كلّ رحلة.
في السفر أحب البساطة على الرغم من أنني أنتقي الفندق بعناية، وتهمني رفاهية ورقي مكان الإقامة، لكن بمجرّد أن أخرج من الفندق تكون وجهتي التعرّف إلى الوجه الحقيقي للمكان، لذا تجدونني أمشي وأمشي لساعات، وكأنني عثرت على صفحة لم أرها في رواية قديمة، سبقت لي قراءتها عن هذه المدينة. فأستكشف أطعمتها الشعبية ومقاهيها وباعتها المتجولين والجديد في حياة سكّانها، حتى وإن كان ببساطة طريقة بدئهم يومهم.
المدن لها قصة متجددة تكتبها طبيعة الحياة فيها، وكلّما اعتقد الزائر أنه اختتم الرواية وعرف تفاصيلها، سيفاجأ في زيارته التالية بأن فصلاً جديداً كُتب، وتستمر الصفحات بلا نهاية، فهي تُكتب ما دامت الحياة باقية في ذاك المكان.
المدن تُشبهنا وتشبه حياتنا، فيمكن أن تمرّ أيامنا رتيبة واعتيادية وكأننا نذهب للإقامة في فندق والبقاء فيه بدلاً من زيارة أطراف المدينة، وكذلك حياتنا اليومية لو تركناها للروتين وتكرار الأحداث اليومية ذاتها، سيمرّ الوقت ونحن نعتقد أننا عشناها ولكننا عشنا على الهامش، بينما قصة حياتنا الحقيقية سطور تُكتب عبر الاستكشاف الدائم والابتكار في طريقة عيشنا هذه الحياة. سطور المدن ليست مكتوبة على ورق، ولكن في الشوارع والأزقة والمعالم التراثية والسياحية والشخصيات الواقفة على جانب الطريق، فهل نمتلك ما يمكننا من قراءتها؟