كنت في زيارة إلى تونس قبل سنوات، من أجل المشاركة في ندوة على هامش معرض الكتاب. أدار الحوار الروائي التونسي كمال الرياحي الذي بدأ بتقديمي للجمهور طالباً مني الحديث عن روايتي، لإعطاء الحضور فكرة عما أردت قوله عبر أحداثها. مدَّ لي يده بالميكروفون. كان الأمر مباغتاً بالنسبة إليّ، رغم أن طلب الرياحي كان بديهياً. لُذت بصمتي لثوانٍ أفكر. ماذا أقول؟ من أين أبدأ؟ كيف لي أن أتحدث في بضع دقائق عما كتبته في أربعمئة صفحة؟! كنت أمرر نظري على الحضور الذين ينتظرون حديثي. شرعت في الحديث وأنا ألملم شتات أفكاري، ثلاث دقائق، خمس وربما أكثر. كنت أشعر بأني تحدثت لساعات، وعلى الرغم من ذلك ما عرفت لحديثي نهاية لولا تدخل كمال الرياحي الذي سحب الميكروفون من يدي وهو يهمس: «يكفي يا رجل!»، ثم ابتسم للحضور يعتذر على دأبه مشاكساً: «المعذرة، الرواية أجمل من كل هذا الهراء الذي قاله!».
لديّ مشكلة في التعبير قولاً على ما يبدو، مذ كنت صغيراً، أشعر بأن كلماتي حتى التافه منها يكون أكثر قيمة ووضوحاً إذا ما أمسكتُ بقلم أصفُّها نقشاً في السطور، يصير لها معنى، وقتَ أوهب الكلمات شكلاً تميزه العين وتألفه. حروف تتحسَّسها أطراف الأصابع على الورق. حتى إنني إذا ما أردت قول أمر مهم لأحدهم أقوم بكتابته أولاً، لأني أخشى أن تفلت مني الكلمات في الهواء خارج المعنى والذاكرة، لا أدري من أين أبدأ وإلى أين أنتهي مع تلك الكلمات غير المكتوبة. أنا أحب القراءة والكتابة، على سبيل المثال، ولكني لا أحب الحديث عنهما، ولعل من أصعب الأسئلة التي تواجهني هي تلك الأسئلة من نوع كيف هو الكتاب الذي بين يديك؟ أو ما موضوع روايتك؟ أشرع في الحديث طويلاً ولا أقول شيئاً. تصير إجابتي نصّاً أرسله عبر الواتساب أو البريد الإلكتروني.
لعل المشكلة لها جذر قديم. أتذكرني تلميذاً أكره سؤال معلم اللغة العربية بعدما يخطُّ بالطبشورة قصيدةً على سبورة الفصل. نقرؤها بصوت عالٍ ثم يسألنا المعلم: «ماذا أراد أن يقول الشاعر؟». ما زلتُ أتذكر ملامح الغضب في وجهه إزاء إجابتي بترديد أبيات القصيدة. سألني بعدما فرغت من ترديدها: «شو هاد؟»، أجبته: هذا ما أراد أن يقوله الشاعر!
أمضيتُ معظم وقت الحصة الدراسية رافعاً ذراعي أدير وجهي إلى الحائط.