من السماء وأنت تهبط على أرض مصر العظيمة، تحيّرك رؤية دلتا النيل في تجسدها المدهش على شكل زهرة لوتس، الزهرة المقدسة في أرض الفراعنة ومصر القديمة.
فأي مصادفة تخلقها الطبيعة وتشبكها بين مخلوقات الأرض!؟ من الذي استوحى شكله من الآخر؟ هل فطن الفراعنة، ضمن سلسلة عجائبهم الخالدة على الأرض، كيف يبدو شكل الدّلتا من الفضاء قبل أن يتخذوا من اللوتس أيقونة للعبادة والتقديس والبعث والميلاد الجديد؟ أم أن الأنهار حين تجري وتتخذ من الأرض جسداً لها، ترسم خريطتها وفقاً لمقدّسات البشر وأحوالهم الروحية؟
لطالما رمزت دلتا الأنهار إلى «زمن البدء»، بدء تشكل فروع القوة الأنثوية الولّادة لبوابة الحياة في النهر، أما اللوتس فهي أيضاً وعاء (الزمن)، والعجلة الكونية للتجلّي في اليوم الجديد، ذلك النسيج المتحرّك الكليّ غير المرئي والذي يدرك كل الوجود. بل إن اللوتس تمثل الزمن الكامل، الماضي والحاضر والمستقبل، نظراً لنباتها الذي يحمل البراعم والأزهار والبذور في التوقيت نفسه. وبهذا نصل إلى أن الجوهر الزمني جامع ما بين اللوتس والدّلتا.. فهل ثمة تعالق آخر؟
يُعتقد بأن الموطن الأصلي لولادة أسطورة اللوتس هو جنوب شرق آسيا، في الزمن الذي أزبدت فيه مياه المحيطات، ظهرت إلى الوجود امرأة متوهّجة تقف على زهرة لوتس متفتحة، حاملة بيدها زهرة لوتس أيضاً. المرأة هي «لاكشمي» إلهة الخصوبة ومثال الجمال الأنثوي، إنها الإلهة الأم، في الأساطير الهندوسية.
كما أن اللوتس زهرة مقدسة في البوذية، هي التأمل والتنوير والوعي الكوني، تسمى جلسة بوذا الشهيرة والتي تستخدم كثيراً في تأملات اليوغا: وضعية اللوتس. وترسم الشاكرات (البتلات) على هيئة زهرات اللوتس، وكثيراً ما تستخدم زهرة اللوتس للإشارة إلى مواضع «الشاكرات» على الجسم، كما هو مقرر في فلسفة اليوغا الهندية.
فلماذا لم تتجسّد اللوتس في دلتا أنهار موطنها الأصلي جنوب شرق آسيا، واختارت أن تتجسد كأعجوبة عظيمة طبيعية في دلتا النيل؟ لماذا استثنت تلك الأرض ولم تختر أرضاً نهرية أخرى كالهند والصين واليابان وكل الدول التي قدّست زهرة اللوتس؟
اللوتس عند المصري القديم تنتج من الروح والمادة والانبعاث الشمسي، هي أشبه بجهاز التكاثر الأنثوي شكلاً وضمناً، وسيميائياً هي رحم الدنيا الذي تنبعث منه الحياة الجديدة. أمثولة لكل ولادة جديدة وخلق وإثمار وتجدد وخلود وتفتح روحي، إذ إن جذورها تبدأ من قاع الطمي، وتنمو إلى الأعلى لتخترق المياه المعتمة، تزهر في الشمس ونور السماء، وتمثل جذورها الثبات والتماسك، ويجسد ساقها الحبل السري الذي يربط الإنسان بأصله، ولعل البذور المتولدة والمتناثرة خارج جيب البذور من رأس الزهرة (البذور المتساقطة في أي مكان تحملها المياه) هي التمثيل الحقيقي لانتشار البشر وزحفهم وتركّزهم عند رأس الدلتا.
ونحن على هبوط في مقابر وادي الملوك، حيث البر الغربي لمدينة الأقصر المصرية، تبرز زهور اللوتس في كتاب الموتى المحفور على جدران الدهاليز المفضية إلى المقابر، حيث مثلت اللوتس أحد إيحاءات الدفن الجنائزي، وأحد رموز الحياة والموت والبعث والخلود، كما توضح بعض النصوص المكتوبة أن مسألة «شم الزهرة» وتقريبها للأنف يعني «اسـتنشاق رحيق الأبدية» كما هو مدون في نصوص بعض المقابر. وفي متون بعض التوابيت تم تمثيل هذه الزهرة أسفل عرش أوزير في مياه الأزلية. فأي إشارة أزلية هذه؟ أي دهشة ولدت في رحم النهر؟ أيمكن أن ترسم الطبيعة تلك الزهرة في دلتا النيل من دون علة ما ورائية؟ من يفسر لغز الدلتا؟