هناك شكوى عامة تزعم نقصان ذكاء الأطفال في هذا الزمن، والمتمعن سيدرك أن العلة هي في التصور المبني على المعنى التقليدي للذكاء، وهو تصور يجعل الحفظ هو علامة الذكاء، والمهارات هي تلك التي تعود إلى عمليات عمادها الحفظ ومخزنها الذاكرة، وهي ما كان يوصف بالمهارة الفائقة التي تنتمي أصلاً لزمن الشفاهية، حيث كان الحفظ والتذكر هما المرجعية العلمية لأي عالم ودارس، ولذا جرى تسهيل عمل الحفظ عبر المنظومات، مثل ألفية ابن مالك في النحو وغيرها في العلوم الدينية واللغوية، وتحرص حلقات التدريس في المساجد على تحفيظ الطلاب من صغرهم المنظومات ثم بعد ذلك تعلم الشرح، وهذا أساس مرجعي سارت عليه العلوم الأولى، إلى أن جاءت المدارس التي اعتمدت الحفظ أيضاً للجيل الصغير، وكلنا نتذكر جدول الضرب الذي لم يعبر طفل من أجيال التعليم، دون أن يضبط جدول الضرب حفظاً وسرعة استحضار، ومثله حفظ هواتف الأصدقاء والتواريخ والمواعيد، حتى صار الحفظ أحد شروط العلاقات العامة مثلما هو شرط علمي، وحين يفقد الناس هذه الوظيفة التي نشأت عليها حياتهم، فهم يشعرون أن ذكاءهم في تراجع؛ لأنهم سلبوا نعمة الاستذكار المباشر، وارتبطوا بشاشة صغيرة تقدم لهم ما كانت الذاكرة تقدمه، والفارق هو حال الحفظ في مخزن الذاكرة أو الحفظ في مخزن الجوال، وهذا فارق مادي أكثر منه خاصية ذكائية، وكأننا نخلط بين عمل الذهن ومخازن الذهن، وهذا خلط يجعلنا ننعى على أنفسنا شيئاً لم يكن جوهرياً لولا حنيننا لزمن كنا في وئام استسلامي له، وفقدنا المعتاد يجعلنا نظن أننا فقدنا ذكاءنا، بينما الذي حدث هو تغير وسيلة الخزن المعلوماتي لا أكثر. وهنا يتضح الفرق بين الذكاء المعلوماتي المعتمد على محفوظات الذاكرة، ونظيره الحديث الذي يطلق عليه اليوم (الذكاء الاصطناعي)، والأخير هو التحدي العلمي الذي سيغير أنماط التفكير والإنتاج البشريين.