في بيروت، في حي شعبي متجر صغير، أنيق، ركزت في واجهته ماكينة خياطة وكثير من «كباكيب» الصوف الملونة والقطع المنمقة بإتقان. صاحبة المتجر تدعى ناهدة توبة، هي امرأة رقيقة، صوتها خافت، ورشاقة أناملها، وهي تتعامل مع قطعة القماش، تروي قصة شغف هائل في داخلها لمقص وإبرة وذوق وموضة. اسم المتجر «حرتوقة» ويضم قطع ملابس وزينة وحقائب من كل الألوان والمقاسات والأشكال. وفي حنايا المتجر كثير من الخيطان الملونة والأزرار و«التخاريج» والسحابات و«الكروشيه».

موهبة وحب
ناهدة توبة لم تدرس تصاميم الأزياء لكنها تعلّمت أصولها و«قطبها المخفية» من والدتها. كانت تساعدها في المساء. توفيت والدتها تاركة فيها موهبة. الصبية ناهدة عشقت هذه المهنة وراحت تعلمها إلى النساء المهمشات، في دورات للخياطة، في لبنان. وراحت تستعين بالنساء اللواتي انتهين من هذه الدورات في إعداد قطع «الكروشيه» في منازلهن. دورة طبيعية أسهمت في إنعاش اقتصاد سيدات كثيرات كن يصنفن مهمشات.

تدوير الثياب
منذ عامين، بينما كانت ناهدة مع صديقتها رشا شكر، تتحدثان عن الخزائن الملبدة بقطع ثياب ما عادت «على الموضة» فكرتا بإعادة إحيائها ورددتا معاً، بصوتٍ عالٍ: ولِمَ لا؟ وبدأت قصتهما مع تدوير الثياب القديمة وتحويلها إلى قطع فريدة.
الذوق عامل أساسي في هذا النوع من المهن. والسيدات اللواتي يذهبن يومياً إلى أعمالهن يحتجن إلى تغيير ملابسهن باستمرار وهذا يكبد النساء العاملات خصوصاً مبالغ كبيرة ويجعلهن يرمين قطعاً باهظة يعتبرن أنها أصبحت قديمة. ناهدة تمسك باستمرار إبرة وخيطاً. وهي تشتري الثياب القديمة التي لا تزال في المفهوم الشعبي «قديمة - جديدة» بالكيلو وتعيد إنعاشها. ثمة سروال جينز أصبح سترة. ربطات عنق أصبحت وشاحات. أكياس الرز والبرغل أصبحت حقائب. هي تكثر من وضع الورود والفراشات على السترات والفساتين وتقول: «هناك نساء لا يرغبن بالفراشات فأستعيض عنها بالتطريز» تضيف: «أعشق التطريز الشرق أوسطي الذي كانت تقوم به أيام زمان النساء الفلسطينيات على الصنارة». هو يمنح قطع الثياب قيمة إضافية. وتستخدم قصاصات ما تبقى من أقمشة في إعطاء رونق لقطع أخرى فتتداخل الألوان ببعضها. هي تعتمد في ما تصمم النسق البوهيمي اللاتقليدي والستايل الغجري الذي تميل فيه إلى كسر القيود في التصميم والإنجاز.

من الفيوم إلى بيروت
مؤخراً، عادت مصممة «حرتوقة» من مصر، من محافظة الفيوم تحديداً، جالبة معها قماش «الأغباني» من أعمال فلاحات الفيوم وتقول: «أحب الاستعانة بهذه القماشة لأنها تمنح القطع المتجددة جمالاً إضافياً»، وتستطرد: «أحب كل ما هو شبيه بالفيسفساء الملونة. زحمة الألوان في القماشة جميلة وإشارة إلى طبيعة الحياة وجمالها». ناهدة تتعامل مع الخيطان وكباكيب الصوف كمن يتعامل مع ماسة نادرة. نراها تدور في متجرها مثل المكوك وهي تشرح كيف أن هناك من يظن، من المارة، أن المتجر لتصليح الملابس وحين يعرف أنه لتغيير القطعة القديمة، وجعلها مختلفة أحياناً تماماً، يستغرب. ذهنية إعادة تدوير الثياب المستخدمة ليست رائجة حتى الآن. وهناك زبونات يسألن كثيراً عن ما ستؤول إليه القطعة قبل أن يقررن خوض هذه التجربة. ومن يجربن مرة يعدن مرات. الناس أنواع وأجناس ولكل واحد أو واحدة ذوق خاص والكل يريد أن يتفرد بقطعته، بأقل كلفة، وهذا ما يتحقق في متجر إعادة تدوير الثياب العتيقة.  لكل قطعة في المتجر مكانة في قلب صاحبة «حرتوقة». وزبائن المتجر نساء غالباً لكن للرجال أيضاً حصة إذا أحبوا. أما إعادة تدوير فساتين السهرة فلا تستهوي صاحبة المتجر كثيراً.

لمسات تجديدية
ماكينة الخياطة التي كانت تستخدمها والدة ناهدة في صدر المتجر. المنخل القديم التراثي أضافت عليه بعض التطريز الجميل فأصبح قطعة جمالية تستحق أن توضع في صدر الدار. زبائن المتجر بغالبيتهن من الصبايا اللواتي يحببن أن يتفردن بما يرتدين ولا يملكن الإمكانات الاقتصادية لذلك. نراهن سعيدات وهن يجلبن ثيابهن القديمة ويطلبن من ناهدة وضع لمسات تجديدية عليها. النتيجة تأتي غالباً جميلة اقتصادياً ومفيدة بيئياً واجتماعياً.