روى الشاعر اليماني عبد الله البردوني، أنه كان ضمن مجموعة من صحبه مسّهم جوع، وليس بين أيديهم سوى مال يسير لا يكفي إلا لشراء تمر قديم متيبس وشرعوا بأكله، ولكن صحبه كلما فتح أحدهم تمرة وجدها تموج بالسوس، فيطرحها ليقع بأخرى متسوسة كسالفتها، وظلوا كلهم على هذه الحال بينما هو يلتهم التمرة بعد التمرة دون وجل ولا تردد، وأخذت الحيرة مأخذها من صحبه، فقرروا إطفاء السراج والدخول في الظلام لكي يتساووا مع صديقهم الأعمى، ويصبحوا عمياناً مثله ليتمكنوا من أكل تمرات تسد رمقهم، وقد رواها البردوني متندراً عن فوائده التي جناها من عماه.
هذه نادرة تكشف السر وراء معظم جوانب الأمان البشري، ذاك الأمان الذي ألمح إليه المتنبي بقوله: (ذو العقل يشقى في النعيم بعقله)، وهذا ديدن ثقافي مطرد، فالمرء يزداد تخوفاً كلما تبصر أو أبصر، وكلما عرف أو كشف، وكثيراً ما يكون الجهل أماناً وراحة.
ومع الشاشة تحولت صيغ الاطلاع وأنظمته لتصبح سريعة وعامة ويتساوى فيها العارف والجاهل، ولم يعد إطفاء السراج حلاً لاختفاء السوس، فالسوس مع الشاشة ينفذ حتى من تحت البصر وعبر الظلام، وسأروي قصة واقعية لي مع الرعب، حيث سافرت أول مرة إلى أميركا عام 1983، بعد زمن من الدراسة في بريطانيا عرفت خلاله بريطانيا وأوروبا معها معرفة إيجابية، وفي الوقت ذاته كنت متخوفاً من أميركا بسبب مخزوني الذهني عن أفلام هوليوود، ومناظر الرعب فيها، مما يحول المدن والشوارع والمواقع إلى صور من القتل والخطف ومستتبعاتها العنيفة، وحين ذهبت إلى أميركا حاملاً ذاكرة الخوف منها، وجدت في الجوار المحيط بسان فرانسيسكو قرية صغيرة بان عليها الهدوء مع جمال الطبيعة ومحدودية السكان وجوارها لجامعة بيركلي العريقة، فظننت في نفسي الهدوء مع الإفادة العلمية، ووضعت بناتي في مدرستين مجاورتين للبيت، ولكن عيبي أنني لم أطفئ السراج، فقد أدمنت على متابعة الأخبار المحلية، وهي نشرة مسائية تعقب النشرات الرئيسية، حيث تنفصل كل محطة محلية عن البث العام وتبث أخبار حيزها الضيق، وهنا تتابعت الشاشة تضخ خبراً من بعد خبر عن وقائع قتل وخطف، وبعضها في ميدان الجامعة، وتوالت القصص حتى رأيت حادثة سرقة بالسلاح وقعت بالشارع المجاور لبيتي، وبعدها بأيام جاء خبر أرعب أهل القرية عن اختطاف طفل حال خروجه من المدرسة، وهنا بلغ الرعب مني مبلغه، فقطعت مقامي ورحلت بعائلتي إلى بلومنجتون في إنديانا، وهي أحسن حالاً من كاليفورنيا والشاشات فيها أقل أخباراً، ولكنها لم تسلم من عنف يوحش فضاء الاستقبال، غير أني عجبت للطلبة المبتعثين في بلومنجتون، حيث يستمتعون بالمكان ولا يصدقون أحاديثي عن الحال غير الآمنة، والسر أنهم قد أطفؤوا السراج بما أنهم لا يشاهدون النشرات المحلية، ولا يقرؤون مواد الجرائم في الصحيفة المحلية.