بخجل تنبت مخفية نفسها بين السواد، أخيوط فضة أم نور النهار؟ شعرة بيضاء تطل بحنو ورقة، لكن إن أبصرتها العين، أو لمستها اليد ذات صباح أمام المرآة، والمرء يعدّ نفسه ليوم جديد هل سيرحب بها، أم ترتسم تكشيرة دهشة على محياه، أم يتنهّد بضيق؟ غالباً ما يحزن معظم الناس؛ لأن ما سيتبادر إلى الذهن أنهم صاروا في منتصف الكهولة، وبوادر الشيخوخة بزغت كخيوط النهار في سواد شعرهم.
يضطرب الكثيرون لرؤية الشعرات البيضاء، فهي علامة كبر في السّن، سارقة شبابهم الغض، أيامهم الحلوة. هم موقنون بأن أرواحهم شابة، قلوبهم خضراء، مقبلون على الحياة بحب وتفاؤل، فلماذا هذا الإنذار المبكر في الشَّعر، الذي يعدّ زينة وجمالاً للرجل والمرأة على حد سواء؟
بكاء الشعراء وحزنهم، عويل طويل تسرب على مدار عقود مديدة إلى اللاوعي لدى معظم العرب، فقد أراقت القصائد دموعاً غزيرة، محملة بتنهيدات وحسرات، وأمنيات صعبة ووعود مكذوبة بعودة الشباب الذي ولّى. توحي إليهم بأن الشيخوخة مرتبطة بهجر الحبيب، خاصة إن كان صغيراً، يبادر بالتعيير بالشيب، وينتهي ببعضهم إلى الرحيل. رغم هذه الصورة الشاحبة، إلا أن بعض الشعراء تحدثوا عن حكمة الشيب ووقاره، فهو جمال، خاصة للرجل. وأما المتنبي فقال إنه لو رجع لشبابه لشعر بالحنين إلى الشيب، وهو استثناء من بين الشعراء العرب. صوّر الشّعر الحرب الخفية بين المرء والشعر الأبيض، فقال بعضهم:
في كـل يــومٍ أرى بيضـاء قـد طلعـت    كأنـما طلعـت في ناظــر البصــرِ
لئن قصصتُكِ بالمقراضِ عن نظري    لما قصصتُكِ عن همَّي وفكري
وأما العلم الحديث فأثبت أن الشعر الأبيض ليس مرتبطاً تماماً بالتقدم في السّن، لوجود بعض الشباب، الذين لم يبلغوا العشرين بعد، وقد تكاثر الشيب في شعرهم. أرجع العلماء ظهور الشيب لنقص في عدد من المعادن المرتبطة بلون الشعر، وبالجينات الوراثية، بهذا يمكن للمرء أن يؤخر تلك الخصلات البيضاء.
من الطريف أن توصف تلك الخصلات البيضاء بالضيف، الذي لا بد من إكرامه، فيقول أحدهم:
للضيفِ أن يُقرى ويعرف حقّه    والشّيبُ ضيفك فاقرِهِ بخضابِ
على المرء أن يتعامل مع ذاته بحب، وأن يكرم الخصلات البيضاء بتركها، أو بخضبها بالحناء أو الصبغة، فتلك ليست سوى جزء من روحه الوثّابة المتحفزة، التي لا تثيرها خصلات الشيب، فهي لا توقف الشباب، لكنها تجدده بلون مختلف، يحمل من النهار نوره.