عبر البرنامج المنوع «صناديق العمر» الذي بثَّه تلفزيون «الراي» في شهر رمضان المبارك، تجاوبَ ضيفُ البرنامج الداعية الشَّيخ أحمد القطان، حديثاً وغناءً عذباً، عند عرض صورة للمطرب الرَّاحل عوض دوخي: «هذا مطرب الكويت، عوض دوخي، له نبرة ما في أحد الآن يقدر عليها، نبرة لها هزَّة حنجرة..»، ثُمَّ راح يُغني محاكياً غناء أبي فهمي، بهزَّة حنجرة تكاد تماثله عذوبة، بختمة إحدى أغنيات «الصَّوت» الشعبية: «يا أُمَّ عمر جزاكِ الله مكرمة.. رُدِّي عليَّ فؤادي أينما كانَ»، ثُمَّ عرج في حديثه على الفنانين غرِّيد الشاطئ وشادي الخليج بكل محبة، وراح يُثني على أغنية «مرينا بيكم حمد» لياس خضر التي يحفظ كلماتها عن ظهر قلب، وتحدَّث بشفافية وحميمية عن طفولتِه في المرقاب ووالدِه عازف العود، وعن الفنان و«الممثل» والشاعر الذين في داخله. قال إنه يتابع المسلسلات والتمثيليات، ولم يستثنِ داعية طفولتنا المبكرة الفنان الراحل عبد الحسين عبد الرضا في حديثه، حيث قال: «يعجبني تمثيل، عبد الحسين عبد الرضا، مثل درب الزلق، يضحكني جدّاً، وهو رجل موهوب في التمثيل، خاصة في دور صدام حسين في مسرحية سيف العرب»، ثم يصف كيف أضحكه أبو عدنان: «قطَّع كبدي من الضحك حينما قام بالرقص»، فختم حديثه بتقليد نبرة صوت عبد الحسين في ذلك الدور.
تتداعى الذكريات إزاء ذكر الشيخ القطان لعبد الحسين عبد الرضا، في خطبة نارية في أحد مساجد منطقة قرطبة في الكويت، تزامناً مع عرض مسرحية «هذا سيفوه» لعبد الحسين عبد الرضا وكوكبة من روَّاد الفن الكويتي، والتي تم إيقاف عرضها على مسرح عبد العزيز المسعود في منطقة كيفان في عام 1988 بضغوط من التيار الديني. يتذكَّر واحدنا نفسه طفلاً مشوّهاً، يُمسك بالقلم الحبر بكفٍّ وتذكرة المسرحية بصور أبطالها في كفِّه الأخرى، يشوِّه وجوه الممثلين بالقلمِ كراهيةً تحت تأثير بلاغة الشيخ القطان في الخطبة المجلجلة التي خلَّدتها أشرطة الكاسيت حتى يومنا هذا.
أنا لا أحمل للشيخ القطان إلا محبَّة قديمة وسلَّة ذكريات يملؤها الفزع وشعور مرير بالذنب. فالقطان يمثل بالنسبة إلى أبناء جيلي ذروة «فلسطينيتنا» إذا ما راح بصوته الجهوري ينادي الأمة من أجل «القدس»، زمن الانتفاضة الفلسطينية الأولى، حينما كان ينام الطفلُ فينا مُطبقاً كفَّة على حجر.
أما سلَّة ذكريات الفزع فقد كانت تغص بكل ما شوَّه طفولتنا رُعباً، وقتَ قامَ بتأليب آبائنا وتحذيرهم وبث القلق في نفوسهم بشأن الغناء والفن والدراما، زمن أشرطة الكاسيت «الصَّحوي»، والتحذير من وحوش «العفن الفني»، ودعوته لأولياء أمورنا لتفتيش غرف نومنا وحقائبنا المدرسية خشية تسلُّل شريط كاسيت غنائي أو شريط فيديو VHS لفيلم ما. يا الله كم «قطَّعت أكبادنا» حسرةً يا شيخ أحمد، والواحد فينا، طفلاً، يستلُّ الشريط البُني من حافظته السوداء، يُقطِّعه ويكوِّمه على الأرض تقرُّباً إلى الله، كما لو كانت صلواتنا البريئة وعباداتنا منقوصة بسبب ذاك الجُرم.
وها نحن اليوم جيل الثمانينات، على وجه الخصوص، نتأرجح بين زمانين، لا ندري أيُّهما زمان الصَّحوة وأيُّهما زمان الغفلة في «صناديق العمر».
أسألك بالله.. «يا شيخ أحمد، جزاك الله مكرمة.. ردَّ عليَّ زماني أينما كان».