كانت الحدوة أغنية من أغاني الحياة عند أجدادنا، وضابطاً لإيقاعها، ومن خلالها، مارسوا الغناء في الماضي، إذ كانت الأم تغني لطفلها وهي تهدهده كي ينام، وتغني له وهو يتعلم الوقوف أغنية تعرف باسم «الرقّوصة»، فتخترع له فيها من العبارات ما تريد. وتغني لابنتها وهي تمشط شعرها، وتغني لطفلها عندما يبدأ أولى خطواته في المشي، كي تنتظم مع إيقاع كلماتها ولحنها، كأنها تعلمه ضبط خطواته الأولى على إيقاع موسيقى روحها. وكذلك البنات اللاتي يلعبن مع بعضهن، كن يغنين أغاني خاصة بهن، تعلمنها من أمهاتهن.
أما الأب، فكان عندما يتنقل على ظهر ناقته، يردد بصوته الشجي مقاطع من قصائد الونة أو التغرودة، وقد يحفر بئراً فيقول حدوة خاصة بتلك العملية، أو قد يسحب ماء من البئر فيحدو قائلاً مبتهجاً بالماء والأرض وناقته وروحه:
يا هبلّي يا هي بَي      والرشا قطع يِدَيّ
أو:
هوبلاني هوبليّه       والرشا قطّع يديّه
وقد يبذر الأرض أو يلقح النخيل فيقول حداوي خاصة بعمله ذاك، وكذلك يفعل عندما يقتحم البحر، ليصيد السمك، أو يسحب الشباك، أو يرفع شراع سفينته، أو ينزله كي يستقر في مكان ما في البحر، للغوص فيه بحثاً عن اللؤلؤ والمحار، منشداً بصوته:
دار انزلنا وابرك دار     دار الخير والمحّار
أو يجدّف وهو يبحر متنقلاً من مكان إلى آخر، مردداً نهمات البحر التي تصف أحلامه وأشواقه وقوته.
وإن احتفل في أعراس الزواج ردد الرزفة والحربية التي تتوهج نار جذوتها ليلاً تحت ضوء القمر، فيقف مع المحتفلين، ملاصقاً كتفه بأكتافهم، ويده بأياديهم، في صف واحد، وإيقاع واحد، وصوت واحد.
ولم تكن تلك الأغاني والحداوي والرزفات في حاجة إلى قصائد طويلة. بل كان يكفي ترديد بيت أو بيتين كي تصدح بهما الأرواح، بل إنها لم تكن تحتمل أحياناً أكثر من بيتين.
أما في المناسبات، فكانت العيالة حاضرة في طقس احتفالي جماعي مهيب.
وإن قرعت الحرب طبولها كان العازي حاضراً على أفواههم.
وفي الصحراء، وُلِدَت الربابة، فحملت صوت ابن الإمارات وقصائده إلى مساحات صوتية وآفاق غنائية جديدة.